الفرق بين متدين اليوم ومتدين الأمس

TT

منذ صغري وأنا أحب الأحاديث والتباسط مع الرجال المسنين، وهم من وجهة نظري أكثر صدقا ونبلا وتدينا ممن (تنطعوا) وركبوا (موجة التدين) في الوقت الحاضر، وأصبح الواحد منهم كثير التجهّم والتبرّم وكأن (قيام الساعة) سوف يحدث غداً، أكثرهم لا يطيق الابتسام وإن تحدث لا يتحدث إلاّ بالأمور الجدية التي أغلبها يجلب الهم والغم، بعكس الجيل القديم الذي لم يبق منه على قيد الحياة إلاّ أقل من القليل ـ مع الأسف ـ.

كان الواحد من ذلك الجيل بشوشا (قلبه أخضر) لا يتحرج من قول أشعار الغزل والتفكّه والتندّر، وإذا حان وقت الصلاة كان أول الداخلين إلى المسجد.

وأذكر أنني كنت كلما وجدت فرصة أذهب إلى زيارة أحدهم في داره، وكان يسعد بزيارتي لأنني (أنكشه) بكثرة أسئلتي التي لا تترك مجالا إلاّ وخاض به، وقبل أن يتوفى ـ رحمه الله ـ بثلاثة أعوام أصيب بالعمى، ومع ذلك لم يكتئب واعتبر ذلك تحصيل حاصل، وقال لي وهو يضحك: إن ذلك كان عقاباً لعيني على كثرة ما شاهدت من (الزين) ـ يقصد من كثر ما شاهدت من النساء الجميلات ـ، وكنت أستمع له وأشاركه الضحكات رغم أنني أعرف أنه يكذب، فلم يعرف في حياته غير زوجته (أم فلان) التي تقاربه في العمر.

ومن رواياته معي قال: إنني كنت أسكن بيتاً من الطين، وكانت حياتنا في ذلك الوقت كلها فقر وشقاء، ولكننا تعايشنا مع ظروفنا وقبلنا بها بكل رضا وقناعة وسعادة.

والتمر هو معيشتنا وحياتنا، لهذا كنا نبني له في إحدى الغرف ما يشبه الحوض الكبير (ونكنزه) فيه ـ أي نخزنه ـ، فيتساقط أحياناً شيء من التمر خارج الحوض.

وبما أن باب الغرفة الخشبي كان مهلهلا وغير محكم وفيه فراغات كبيرة من الأسفل، فقد تسلط جرو صغير يدخل في كل يوم من تحت الباب ويأكل من التمر المتساقط.

وانزعجت زوجتي أيما انزعاج وهي تحثني على تصليح الباب وسد الفراغات لكي لا يدخل الجرو إلى الغرفة، فقلت لها: الله يهديك يا (أم فلان) كيف تحطين عقلك بعقل جرو صغير (تحق عليه الصدقة)؟!، اعتبريه يا بنت الحلال مسكينا من المساكين ودعيه يأكل، وإنني أضمن لك أنها كلها عدة أشهر وسوف يكبر الجرو ويسمن ولن يستطيع بعدها من كبر حجمه أن يدخل من تحت فتحة الباب دون أن نمنعه نحن.

وفعلا كنت أدخل للغرفة كل يوم وإذا لم أجد هناك تمر متناثر، آخذ من الحوض تمراً ثم أنثره بالأرض دون أن تعلم زوجتي، ويبدو أن الجرو الصغير قد فهم (اللعبة)، لهذا إذا دخل الغرفة ولم يجد تمراً متساقطاً على الأرض كان يأتي ويتمسح بقدمي ويتشقلب ويتبطح ويهز لي ذيله دون أن ينبح مخافة أن تسمع زوجتي نباحه، وعندما تحين الفرصة وأعرف أنها ذهبت لتقضي بعض الشؤون أستغلها فرصة وأذهب للغرفة على أطراف أصابعي وكأنني سارق والجرو يتبعني بحذر وهو يتلفت للخلف بين الحين والآخر خوفا من أن (تكبس علينا) زوجتي، وبعدها أخرج له شيئاً من التمر وأنثره.

وفعلا ما هي إلاّ عدة أشهر وكبر الجرو وصار كلباً ولم يعد يستطيع الدخول، وما هي إلاّ عدة أشهر أخرى وإذا به يعاشر كلبة (جميلة) وإذا بها تلد أربعة من الجراء، عرفت (بكل خبث) طريق والدهم للدخول من تحت فتحة الباب.

[email protected]