فرح العمر وصدأ السنين

TT

تمنح مصر، الأشياء والناس والأسماء، حجماً إضافياً. أو حجماً مرئياً. عندما أقرأ لجاري الكبير، مثلا، عن عبد الناصر أو السادات أو عبد الوهاب، أقول في نفسي، ماذا كتبت للقارئ العربي عن شارل حلو والياس سركيس ووديع الصافي؟ إنهم رجال ممتازون بكل المقاييس، إلا واحداً هو المقياس القومي. النخب تعرف أن شارل حلو كان فائق الثقافة وأن الياس سركيس كان فائق الخلق، لكن ليس نسبة كبرى من أهل طنطا ودمياط. في حين مَن من أهل صيدا أو صور لا يعرف عبد الناصر أو السادات؟ أو عبد الوهاب، أو حتى صاحبنا شعبوية، أو شعبوكة، او الاسمو ايه.

وقد كتبت غير مرة، أن ما حققه «الشوام» في مصر، من صحافة فكر وعلوم، كان يمكن أن يبقى مجهولا أو، في أحسن الأحوال، بلدياً، لو لم يهاجر آل تقلا وآل زيدان وآل فارس وآل حروف وفاطمة اليوسف إلى مصر. وكذلك أسمهان وفريد الأطرش. وأنور وجدي. ونجوى فؤاد. وسعاد حسني. ولو بقيت وردة في الجزائر لربما ظل صوتها داخل وهران. أو عنابة.

ذهبت بالأمس إلى حفل لتكريم الأخوين رحباني في معرض الكتاب في بيروت. جلست في الصفوف الخلفية لأرى الحاضرين، لا لأسمع الخطباء. وخطر لي وأنا أتأمل معالم الناس ورؤوس المحجبات أن عاصي ومنصور كانا أول من تجاوز مصر دون اللجوء إلى النيل. لقد أحبهما العالم العربي وتوله بصوت فيروز وتفهم اللهجة اللبنانية الصعبة، وأعجب بهم من دون أن يطلوا عليه من مصر. وأحبتهم مصر وأحبهم أساتذتها. وطلب محمد عبد الوهاب أن يلحن لفيروز. وكان يتربع على الأرض ليصغي إليها تغني له، أو للأخوين.

أصغيت إلى الشاعر هنري زغيب وهو يلقي قصائد الأخوين رحباني مجردة «من صوت فيروز ولحن للرحبانيين». واعتقدت أنني أصغي إلى القصيد الرحباني للمرة الأولى. ولأول مرة سمعت شعرهما مجرداً من المؤثرات، إلا إيقاعه وجماليته وحنوه، فكاد يساورني جحود، فكدت أقول، كأنما هو رحيق الشعر ولو من دون صوت فيروز. فكيف به بذاك الصوت الذي لم ندرك حتى الآن، أحلمٌ هو، أحبٌ هو، أم هو صدى الجميل والعذاب والماتع من صدأ أعمارنا؟

لا يعرف منصور الرحباني كم أحبه وكم أحببت عاصي. ولا تعرف فيروز كم ترافقني في حياتي، فرحاً ووطناً وحزناً وأسى. ولن يعرفا. فأنا لا يمكن أن أعرف. وإذا عرفت فلا تعبير يعرف.