مفهوم العلاقة بأمريكا في ظل المتغيرات (السعودية نموذجا)

TT

بعد مكابرة طويلة الأمد: اعترف الرئيس الأمريكي جورج بوش بأن قرار الحرب على العراق بني على أوهام وأكاذيب أو تقديرات مثقلة بالأخطاء الغبية.. وينبثق من هذا الاعتراف سؤال أوّلي بدهي وصادم وهو: كيف يتخذ مثل هذا القرار المدمر في بلد ديمقراطي: المفترض ان يمر فيه القرار ـ بقنوات من الوضوح والغربلة والمراجعة وفق آليات صارمة: دستورية وقانونية وسياسية: لا تسمح بالمجازفة ولا بالمغامرة بمصالح أمريكا وأمنها القومي.. كيف أمكن اتخاذ قرار جر على أمريكا خسارة مالية (أكثر من ثلاثة تريليونات دولار)، وخسارة بشرية تمثلت في قتل ألوف الأمريكان، وتعويق وتشويه عشرات الألوف منهم، وخسارة معنوية تمثلت في تقبيح صورة أمريكا في العالم كله؟ ـ كيف تتخذ مثل هذه القرارات المميتة في بلد ديمقراطي؟.. وما الفرق ـ في هذه الحال ـ بينه وبين بلد تتخذ فيه القرارات بالدكتاتورية والاستبداد؟

إنها ـ من هذا المنظور ـ كارثة قومية أمريكية، وهي كارثة هيأت للكثيرين: أن يقارنوا بين أمريكا وبين الاتحاد السوفيتي من حيث احتمالات التفكك والسقوط العاجل!!.. وهذا ذاته خطأ جسيم. فلئن قلنا: إن ما جرى لأمريكا على يد بوش والمحافظين الجدد هو كارثة قومية أمريكية بشهادة أكابر المفكرين الأمريكيين، فإنه من القفز على الحقائق والوقائع: التعجل بالمقارنة بين مصيري: الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة الأمريكية، ذلك أن هناك حقائق ووقائع عديدة تمنع هذه المقارنة.. فطبيعة النظامين مختلفة جدا. فالنظام السوفيتي كان نظاما (غير طبيعي) إذ قام على مصادرة (الحقوق الطبيعية) للناس، على حين قام النظام الأمريكي على أساس الحقوق الطبيعية للناس، على الرغم مما في فلسفة هذه الحقوق وتطبيقاتها من أخطاء.. والنظامان الأمريكي والسوفيتي مختلفان من حيث (العمر السياسي). فالاتحاد السوفيتي لم يعش إلا سبعين عاما ـ تقريبا ـ. أما النظام الأمريكي فقد عمّر أكثر من قرنين من الزمان (إذا قدر ان عمر النظام الأمريكي قد بدأ برئاسة جورج واشنطن: 1789 ـ 1797م).. والنظامان مختلفان في قدرتهما على مواجهة الأزمات واستيعابها والتعافي منها. فالاتحاد السوفيتي سقط في أول أزمة اقتصادية سياسية يواجهها وهي الأزمة التي كشفها جورباتشوف في كتابه (إعادة البناء) وحاول معالجتها، ولكن بعد فوات الأوان. لكن الولايات المتحدة استطاعت التعافي من أزماتها الحادة والطاحنة.. وأبرز هذه الأزمات: أزمة التأسيس.. وأزمة الانفصال والحرب الأهلية.. وأزمة الكساد الاقتصادي الرهيب عام 1929 والتي استمرت حتى الاربعينات من القرن العشرين.. يستنتج من هذا: ان الولايات المتحدة (الشعب والمعرفة والحضارة) ستظل دولة قوية ومؤثرة في الحقبة المقبلة على الرغم من سوء هذه الإدارة أو تلك، وعلى الرغم مما يصيبها من أزمات حادة.. وهذا كله مشروط بخطط إنقاذ سياسية وثقافية واقتصادية تستطيع إعادة الثقة بأمريكا على المستويين: الوطني والعالمي.. ومشروط ـ بوجه خاص ـ بأن تقتنع الإدارة الديمقراطية الجديدة بأن أمريكا إنما تتقدم (بتقدم العالم لا على أنقاضه)، وبأن تقتنع بأن شؤون العالم تتطلب ـ في التعامل معها ـ (رؤى عالمية متنوعة لا رؤية أمريكية مفردة). وبأن تقتنع بـ(مفهوم الاختلاف الطبيعي) بين الأنظمة السياسية في العالم. فهو اختلاف شاءه الله سبحانه: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم».. والاقتناع بهذا المفهوم الكوني التعددي بين البشر يلزم قادة أمريكا بالكف المستنير عن فرض نموذجهم على العالم: كما فعلت إدارة المحافظين الجدد: وفق عقيدة ايدلوجية ملأت جوانحهم.

ومن الحق أن نقول: ان الاقتناع بهذا المفهوم الكوني التعددي الأصيل الواقعي الجميل، كان هو الذي يغذي سلوك قادة أمريكا تجاه العالم، والتعامل مع دوله وشعوبه.

مثلا: بعيدا عن (صخب الايدلوجيات): تأسست علاقة متينة ومفعمة بالمنافع الحيوية بين المملكة العربية السعودية وبين الولايات المتحدة الأمريكية.. والظاهرة السياسية الحضارية الأبرز ـ ها هنا ـ هي: ان هذه العلاقة النفعية العاقلة الفاعلة المتنامية قد تأسست وأثمرت في ظل نظامين سياسيين اجتماعيين مختلفين.. ففي أوائل القرن العشرين حين كان الملك عبد العزيز آل سعود يؤسس دولته ويوحدها: على ما يؤمن به هو، ويؤمن به شعبه من مبادئ وعقائد وشرائع وقيم. في هذا الوقت نفسه كان النظام السياسي الاجتماعي الامريكي قد قطع شوطا زمنيا طويلا وهو يأخذ بـ (الثوابت) الامريكية وهي: الدستور والاتحاد او (الفدرالية).. والديمقراطية السياسية.. و(العلمانية الخاصة)، أي التي لا تسمح بقيام الدولة على الدين، ولا تجنح ـ في الوقت نفسه ـ الى معاداة هذا الدين او ذاك كما نص على ذلك التعديل الاول للدستور الامريكي عام 1791.. هما ـ اذن ـ نظامان مختلفان، ولكنهما غير متناقضين، ولا متصادمين، ولا متعاديين. ولذا لم يضطر قادة النظامين الى فتح مناقشات من اجل ازالة التناقض بين النظامين لكي يتسنى لهم التعاون الموسع الواثق النافع، بل كان مبدأ الطرفين العظيم والعقلاني هو (تحقيق المصالح المشتركة لأنظمة سياسية متنوعة).. وفي ظل هذا المبدأ العقلاني الانساني المصلحي المشترك. ربح طرفا العلاقة.. مثال ذلك ان النهضة السعودية المعرفية والتقنية والادارية والتعليمية والتجارية قد ارتبطت ـ بعمق ـ بامريكا: مجتمعا وحضارة ودولة منذ ظهور النفط والى يوم الناس هذا.. ومن المرجح استمرار هذه العلاقة في المستقبل.. ومما لا ريب فيه ان امريكا قد استفادت كثيرا من هذه العلاقة. وهي استفادة تدخل في صميم (فلسفة المنفعة) التي غذت السلوك الامريكي: الاقتصادي والسياسي، ولا تزال تغذيه.

على انه من (النقص المعرفي): حصر العلاقة السعودية الامريكية في الجوانب المادية وحدها.. فهناك (مبادئ وقيم مشتركة) بين المجتمعين: السعودي والامريكي.. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: الايمان بالله والثقة به (الشعار الامريكي المثبت على الدولار هو: نحن نثق بالله).. وفي وثيقة الاستقلال والدستور الامريكي مفاهيم (إيمانية) قوية وواضحة.. وهناك التعظيم المشترك للمسيح وامه مريم عليهما السلام ـ وهناك (قيمة العائلة) وضرورة المحافظة على كينونتها ومكانتها.. وهناك (قيمة المحافظة) بمعنى الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهي قيمة اعلت شأنها وثيقة الاستقلال في نصوص صريحة، كما ان الدستور الامريكي نزع الى المحافظة من خلال قيود شديدة على تغييره، وهي قيود تكاد تجعل التغيير مستحيلا.. ويلتقي المجتمع الامريكي مع المجتمع السعودي في قيمة المحافظة هذه، فالاخير مجتمع (محافظ) ـ بمعنى الحرص على الاستقرار الاجتماعي والسياسي ـ .. وبدهي: ان المحافظة ـ بهذا المفهوم ـ لا تعني الجمود بحال من الاحوال.

ثم.. في ظل (المتغيرات الامريكية) التي تمثلت في ذهاب إدارة جمهورية، ومجيء إدارة ديمقراطية.. في ظل هذه المتغيرات، قد يقال: كيف يمكن تجديد نسيج العلاقة السعودية الامريكية مع وجود إدارة ديمقراطية؟.. وهذه مداخلة تبدو وجيهة لأول وهلة، ولكنها ساذجة أو قاصرة عند التحليل العميق. أولاً: لأن العلاقة أدوم وأثبت من تقلبات الإدارة بين الجمهوريين والديمقراطيين.. وتاريخ أكثر من ستين عاما من العلاقة دليل حاسم على هذا الدوام والثبات.. ثانياً: ان نسّاج العلاقة السعودية الاميركية الأول ـ في الجانب الأمريكي ـ كان ديمقراطيا كبيرا قحا ـ بلا منازع ـ وهو الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت انه هو ـ والملك عبد العزيز آل سعود ـ هما اللذان غرسا شجرة العلاقة السعودية الأميركية وتعهداها بالسقي والتخصيب والرعاية والحراسة حتى أثمرت ثمراتها الممتدة حتى الآن.

وثوابت العلاقة ـ المبدئية والمصلحية ـ لم تتغير، بل هي ثوابت تتيح (الاجتهاد) الموسع والخصيب الذي يجدد نسيج العلاقة بين البلدين تجديدا يتمتع بثمراته الحلوة في المستقبل: الشعبان: السعودي والأمريكي، فالعلاقة بين البلدين تدخل عقدها السابع، ولذا فهي في حاجة إلى إحياء مضامينها، وتجديد نسيجها، تمهيدا لعلاقة أوثق وأنفع في الحقب المقبلة.