الذرة والنووي والنيات

TT

هو حديث المنطقة: المفاعل النووي الإيراني، وسعي إيران للحصول على القنبلة الذرية. تارة يقال القنبلة النووية وأخرى يقال الذرية. بالنسبة للمتابع العادي مثلي، لا يوجد فرق، بينما الفارق بين النواة والذرة معروف علميا.

الكلمتان تتردد مشتقاتهما التسليحية والمتعلقة بالطاقة مع كل مرة يتناول المحللون المفاعل النووي الإيراني هذه الأيام، «فالذرة هي أصغر جزء قابل للتفاعل الكيماوي وقد توصل العلم إلى القدرة على تفجيرها وتجزئتها في الأجسام المشعة مثل اليورانيوم. وتتكون الذرة من نواة حولها كهيربات لا ترى جميعها بالعين المجردة إذ أن الملايين منها إذا ما صفت لا تتجاوز المليمتر الواحد» هذه الفقرة منقولة ولا أعرف معناها بالضبط!.

لكن شدني معاني هاتين الكلمتين ـ الذرة والنواة ـ البعيدة عن التصنيع الحربي أو صناعة الطاقة، فالذرة هي من أصغر النمل، ووردت في القرآن الكريم «مثقال ذرة خيرا يره»، والذرية هي الخلف، فنصت المادة الرابعة من الدستور الكويتي على أن الحكم وراثي في «ذرية مبارك الصباح»، وفي سورة البقرة «قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين». وذرَ بمعنى نثر، فيقال «ذر الرماد في العيون»، كأن نقول بأن مطالبة إسرائيل لنزع السلاح النووي الإيراني هو لذر الرماد في العيون كي لا ترى مفاعلها وقنابلها. والذرى هي ما يحجب من الرياح ولعلها مشتقة من الذرية التي تحمي الواحد من العدا في الماضي، وقال الأمير تركي بن عبد الله آل سعود ـ مؤسس الدولة السعودية الثانية ـ «حصنت نجد عقب ما هي تطرا .. مصيونة عن حر لفح المذاري».

والذرار آلة تحول الحب ذرا ـ أي جزيئات صغيرة. وستكون المنطقة «ذاريا تذروه الرياح» لو دخلت في حروب نووية، أو جرت مواجهة أمريكية ـ إيرانية. إسرائيل تمارس حربا نفسية وتسرب بين الحين والآخر استعداداتها لضرب المفاعل النووي الإيراني، آخر هذه التسريبات هي تقرير حربي سري إسرائيلي بضرورة الإسراع في مهاجمة المنشآت الذرية الإيرانية قبل مجيء الرئيس المنتخب الجديد باراك أوباما إلى البيت الأبيض في يناير المقبل. من ناحيتها، يردد المسئولون في إيران «ذرذرة» (ثرثرة) حول قدراتهم على تدمير إسرائيل وإغلاق مضيق هرمز، وآخرها التهديد بضرب الملاحة العالمية في بحر العرب والمحيط الهندي.

وبعيدا عن العلم والطاقة، فإن النووي مشتقة من النوى، وهي جمع نواة التمر، أي الحبة التي داخل الثمرة، ومنها النية التي تكون أيضا داخل عقل وقلب الإنسان وليست ظاهرة للعيان، وفي الحديث الشريف «إنما الأعمال بالنيات»، وكما أن المناواة هي المعاداة، كأن نقول «تناوي حماس فتح العداء من أجل السلطة»، ويقال في الأفلام المصرية ممازحة: «قصدي شريف، بس نيتي باطله!». ويقال في الأمثال بأن «النية مطية»، ونوى الله المنطقة من نوايا إيران وجرائم إسرائيل، أي حفظها الله منهما. ويقال بأن بالنية القذُف، أي المكان البعيد، وعسى الله أن ينوي الحروب قذٌفا، أي يبعدها عنا جميعا.

والنية تخطيط وتفكير يسبق العمل. وغنى المغني في الجزيرة قديما: «وداعة الله يا مسافر وناوي الفراق».

العلاقة المعقدة لغويا بين النوايا والذرة تعكس العلاقة المعقدة التراكيب هذه الأيام بين إيران وإسرائيل وأمريكا. فهي علاقة تدور في ظاهرها حول المفاعل الذري الإيراني، ولكن النوايا غير الظواهر، والمسألة بين هذه الأطراف الثلاثة تتجاوز «الذري» إلى «النووي» ـ من النية، وأبعد من تهويشات إسرائيل بضرب إيران، وذرذرة إيران برد الصاع صاعين.

في العراق، وافق البرلمان العراقي على الاتفاقية الأمنية مع أمريكا: الاتفاق المعلن شيء، والنوايا شيء آخر، لنرقب المشهد، فنواياه أبعد من الاتفاق بين البلدين.

قديما قيل: «اللهم أصلح لنا النية والذرية»، ولعلنا نضيف: ووضح لنا أبعاد الاتفاقية!