«الحجاج» القادمون إلى العراق

TT

بحماس واستبسال يصر أحد الكتاب الفلسطينيين الذي يصدر صحيفة «مستقلة» في لندن على استنكار «الحج العربي» للعراق، وهو لا يفهم أبدا لماذا يقوم المسؤولون والوزراء العرب بزيارة العراق، كما لا يقبل أبدا بفكرة اطفاء او تخفيف الديون العراقية من قبل الدول العربية لأن العراق لديه موارد جيدة من تصدير النفط ولا يستحق مثل هذه البادرة. من يقرأ الطريقة التي يجادل بها هذا الكاتب يتصور انه اخطأ سهوا وهو يتحدث فأبدل اسرائيل بالعراق! هذا الكاتب يتذرع بـ«الاحتلال» ليرفض أي تقارب مع بغداد، ولكنه نفسه عندما كان ينتقد لدفاعه عن النظام السابق كان يقول انه يدافع عن العراق ـ البلد وليس النظام، لكنه لا يستطيع اليوم ان يدافع عن العراق ـ البلد ولا يرى ان التقارب العربي الذي كان ينادي به سابقا مع «العراق ـ البلد» مفيد اليوم، ليس لان العراق ـ البلد قد تغير بل لأن من تغير هو العراق ـ النظام. يتذرع ايضا بان النظام اليوم طائفي متعكزا على ذاكرة البعض الضعيفة التي تنسى او تتناسى ان 90% من اعضاء مجلس قيادة الثورة المنحل كانوا من لون طائفي وعرقي واحد، وان بعض الانظمة الاثيرة لدى هذا الكاتب تقوم على معادلات طائفية لا تقل اجحافا. وبصراحة مؤلمة اقول ان هاتين التهمتين، الوجود الاجنبي والطائفية ليستا من نوع الاتهامات التي يمكن للعرب سياسييهم وكتابهم، جهلتهم ومثقفيهم، ان يتبادلوها، فالجميع في مركب واحد.

شهد المجتمع العراقي في السنوات الاخيرة انقلابات مفاهيمية حادة نتيجة عمق التغيير واللايقينية المرافقة له، وكذلك نتيجة لخيبات الامل التي مني بها غالبية العراقيين تجاه الاخرين كما تجاه انفسهم. وقد لا يكون سرا القول ان موقف نسبة كبيرة من العراقيين نحو الفلسطينيين قد اصبح سلبيا عندما سقطت تلك الصورة المثالية للفلسطيني بفعل الانتهازية واللاتعاطف في سلوك نفر من الفلسطينيين، يكفي ان نلحظ المقالات التي كتبت في المواقع تأييدا للنائب مثال الالوسي اثر زيارته الى اسرائيل على رغم الموقف الذي اتخذه البرلمان ضده. ولولا سيطرة الاسلاميين على مجلس النواب لكنا قد رأينا مفاجآت على هذا الصعيد تجعل ذلك الكاتب العربي المنزعج من نفوذ «اصحاب العمائم» يتمنى لو ان الامور لا تؤول لغيرهم، فالعلمانيون العراقيون هم اكثر لهفة للتطبيع مع اسرائيل رغم بعض الاستثناءات هنا او هناك. المهم في الامر هو ان هذا التحول في موقف الشارع العراقي ليس منفصلا عن المنطق الذي يستخدمه هذا الكاتب والكثير من الكتاب العرب الذين عندما يتحدثون عن «الشعب العراقي» يبدو وكأنهم يتحدثون عن شيء لا علاقة له بالسبعة وعشرين مليون انسان الذين يعيشون في هذا البلد. هناك دائما اصطناع في الحديث يحول اقلية عراقية منسجمة مع فكر هؤلاء الكتاب الى «الشعب العراقي»، تماما كما ان احدى القنوات الفضائية العربية تعتبر هيئة دينية ـ سياسية لم يعد لها اي وجود عملي على ارض العراق الناطق الافضل باسم العراقيين حتى انها تلجأ الى ابراز مواقف تلك الهيئة في كل كبيرة او صغيرة متجاهلة القوى الحقيقية على الارض من نفس الخلفية الاجتماعية فذهبت الى حد ابراز وترجيح رأي هيئة دينية في الاتفاقية الامنية مع الامريكان على حساب إجماع قوى سياسية منتخبة هي الأدرك بالمخاطر والخيارات.

بفضل هذا الكاتب وتلك القناة واخرون مازال الكثير من المواطنين العرب ينظرون الى تنظيم القاعدة على انه «يجاهد» لتحرير العراق من الاحتلال ولا يقبلون ما يقال عن الجرائم التي اقترفها هذا التنظيم الهمجي ضد العراقيين على اختلاف انتماءاتهم، وبفضل هؤلاء يمكنك ان ترى تونسيا او جزائريا او مغربيا يتهم عراقيا بأنه خائن او يدافع عن شخص يعتبره غالبية العراقيين سيئا، وهناك من يحاول خداعنا عبر تجنب التعميم مستحدثا مفهوم «العراقيين الشرفاء» والشرف هنا لا يعني شيئا سوى ان تتبنى نفس موقف المتحدث والا فانك «غير شريف». الكثير من هؤلاء ظلوا يتباكون على العراق المحاصر حيث عاش المجتمع العراقي عشر سنوات جدباء من الجوع والفقر والمرض لكنهم كانوا يحضون النظام على مواصلة «مقارعة الامبريالية» حتى اخر عراقي! يحدث ذلك لأن «العراقيين» في نظر هؤلاء ليسوا الشعب الذي يعيش على الارض المعرفة باسم العراق، بل هم مفهوم وهمي تمت صناعته وقولبته في ذات المختبرات التي صنعت وهم «الشعب الفلسطيني» الذي لا يأكل ولا يشرب ولا يضحك ولا ينام، بل يجاهد ويقاوم ويقاتل طوال الوقت ونحن نغني له ونندب حكوماتنا التي لا تفتح لنا الحدود لننظم اليه في جهاده. المفارقة الكبرى ان الحدود عندما فتحت لاول مرة عبرها الفلسطينيون الى اراضي الدولة العربية المجاورة وليس العكس، واولئك الذين عبروا تلك الحدود هم الفلسطينيون الحقيقيون الذين يجوعون ويبحثون عن حياة كريمة ككل البشر، وليسوا مجرد مشروع «شهادة» نتغنى به لنعوض عقد نقصنا المتراكمة ونحن عاجزون عن ان نغير شيئا من واقعنا. الفلسطينيون اليوم يقاتلون بعضهم البعض، لكن هناك من لا يستطيع ان يعيش الا باصطناع وهم عن «النضال الفلسطيني» ولا يقبل بمناقشة هذه الامور لانها «تفاصيل بسيطة» لا يجب ان تشغلنا عن «القضية».

هؤلاء الذين جعلوا من فلسطين مجرد «قضية»، سلخوها من جلدها البشري وسولوا للفلسطينيين ان يلعبوا دائما دور الضحية، الضحية التي ينبغي ان تكون مثالية بكل المعاني تسهو ولا تخطئ ولا تشتهي، هؤلاء هم من اسهموا اكثر من غيرهم في تحطيم كل ما هو حقيقي في تلك القضية عندما ارادوها ان تكون «مصيرية» و«ازلية» و«تاريخية» اكثر من ان تكون «حقيقية». هذا الكاتب وامثاله يريدون من العراق ان يغدو «قضية مصيرية وازلية وتاريخية» فتلك هي البضاعة التي يعرفون تسويقها ويجيدون ملء جيوبهم منها. لذلك لا تطبيع مع العراق ولا اطفاء للديون ولا ولا ولا، فبتلك اللاءات وحدها تصنع «القضية» وتغدو معاناة الناس البسطاء التي هي اصل القضية غائبة او مجرد تفصيل بسيط ويصبح على العراقيين كما كان على الفلسطينيين ان لا يلبسوا الا ما يخيطه الاخرون لهم..