فريق عمل من ذوي الثقل والنفوذ

TT

وقع اختيار الرئيس المنتخب باراك أوباما على فريق عمل غير اعتيادي، أوكل إليه مهمة وضع سياسة الأمن القومي.

من الناحية الظاهرية، تبدو اختيارات أوباما متعارضة مع بعض مبادئ المنطق الرئيسة، وعلى رأسها أن تعيين أفراد يتمتعون بجمهور انتخابي مستقل مناصر لهم، وبالتالي يصعب فصلهم من مناصبهم لاحقاً، يقيد يد الرئيس، كما أن تعيين أفراد ذوي توجهات سياسية محددة بالفعل في مناصب مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية ووزير الدفاع ربما يستنزف طاقة الرئيس في محاولة تسوية الخلافات بين مستشاريه.

والمؤكد أن الأمر تطلب شجاعة بالغة وثقة كبيرة بالنفس من الرئيس المنتخب كي يختار هذا الفريق من المعاونين له ـ وكلاهما صفتان أساسيتان لتناول ضرورة إقرار النظام داخل نظام دولي ممزق. وفي ظل هذه الظروف، ربما بدا التخلي عن التفكير المنطقي التقليدي شرطا مسبقا لتحقيق الإبداع.

ولا بد أن أوباما والسيناتور هيلاري كلينتون، التي اختارها لمنصب وزيرة الخارجية، قد خلصا إلى أن البلاد ومسؤوليتهما تجاه الخدمة العامة يتطلبان تعاونهما.

في الواقع، إن من يتعاملون مع عبارة «فريق من الأنداد» بشكل حرفي يغفلون عن تفهم جوهر العلاقة بين الرئيس ووزير خارجيته. إن القاعدة التي لم أصادف لها استثناءً قط تقول بأن أي وزير خارجية يصبح مؤثراً وذي نفوذ فقط إذا ما جرى النظر إليه باعتباره يشكل امتداداً للرئيس ذاته، وأي مسار آخر للعلاقة بين الجانبين ينتهي بإلحاق الضعف بالرئيس وتهميش وزير الخارجية. أما انتهاج مسار تسريب المعلومات وتبادل التلميحات فلن يسفر سوى عن توسيع هوة لا يكاد يراها أحد. من ناحيتها، ستسعى الحكومات الأجنبية إلى استغلال هذا الشقاق من خلال اتباع توجهات دبلوماسية بديلة تجاه البيت الأبيض ووزارة الخارجية. إن صياغة سياسة خارجية فاعلة واضطلاع وزارة الخارجية بدور مهم في تنفيذها يستلزم أن يكون لدى الرئيس ووزير خارجيته رؤية مشتركة للنظام الدولي، واستراتيجية عامة وإجراءات تكتيكية. وينبغي تسوية الخلافات في الرأي التي ستنشأ لا محالة بين الطرفين بعيداً عن الصعيد المعلن. في واقع الأمر، إن قدرة وزير الخارجية على التحذير وطرح التساؤلات يعتمد على مدى الحصافة التي يبديها عند إثارته لتلك التساؤلات.

والمؤكد أن وزارة الخارجية الأميركية تشكل أداة سياسية لا تضاهيها أداة أخرى في قيمتها التي تعززت على مدار السنوات. ومثلما الحال مع أي هيئة نخبوية، فإنها تعجز عن التغلب على بعض التعصب أشبه بالتعصب القبلي بداخلها. وعليه، عادة لا يجري التعامل بجدية مع وجهات نظر الذين لا يتولون مناصب قيادية عليا داخل الوزارة، ربما بناءً على فرضية أنهم لم يكونوا ليجتازوا اختبار الالتحاق بوزارة الخارجية. وقد شعر وزراء الخارجية بالإحباط جراء العمليات الداخلية المعقدة اللازمة للحصول على تصاريح رسمية، بينما اشتكى الرؤساء في مذكراتهم الشخصية من بطء سرعة رد فعل الوزارة.

وفي إطار عملها اليومي، تشبه وزارة الخارجية جهاز ضخم للتعامل مع البرقيات، حيث تستجيب لآلاف التقارير من مكاتبها بمختلف أرجاء العالم. وفي الأغلب الأعم من القضايا، تتعامل هذه التقارير مع القضايا الفورية، لكن لا يوجد جهاز مؤسساتي للتصفية والتنقيح يُعنى بالمدى البعيد. يجري التعامل مع هذه البرقيات من خلال الكثير من مساعدي الوزير، ولا تصل سوى نسبة ضئيلة منها إلى البيت الأبيض. والواضح أن الاعتبارات الجيوسياسية والاستراتيجية ليس لها جمهور محدد من المهتمين، ورغم وجود مجلس لتخطيط السياسات، فإن أنشطته غالباً ما يتم تهميشها.

وليس بمقدور أي شخص التشكيك في الإمكانات القيادية لوزيرة الخارجية القادمة أو قدرتها على إثبات وجود رائع على طاولة التفاوض. وتتمثل أكبر التحديات التي ستفرض نفسها أمامها بمجرد توليها مهام منصبها الجديد في توفير التوجيه الاستراتيجي وإعادة تنظيم الوزارة، بحيث تصبح قدراتها بمجال التنفيذ على مستوى مهاراتها الفريدة بمجال وضع التقارير. وينطوي هذا الدور للوزيرة على أهمية كبرى نظراً لأنه على الصعيد التنظيمي تميل وزارة الخارجية بقدر أكبر تجاه الاتصال بالوزير عن البيت الأبيض.

من ناحية أخرى، لم يسبق أن تم تعيين شخص في منصب مستشار الأمن القومي يتمتع بخبرة تضاهي تلك التي يحظى بها الجنرال المتقاعد جيمس إل. لونز، القائد السابق لفيالق المارينز وأحد قادة حلف الناتو. وحتماً، سيتلازم دوره كمستشار للأمن القومي مع قيامه بدور في صناعة السياسات اعتماداً على خبرته الواسعة والفريدة من نوعها. أما المقولة الشهيرة بأن مستشار الأمن القومي ينبغي أن يأتي دوره في عملية صنع السياسات مشابهاً لدور ضابط تنظيم المرور، بدلاً من المشاركة، فتعد فكرة نظرية أكثر منها حقيقة عملية، ذلك أنه لن يشعر أي رئيس بأنه مجبر على قصر المشورة التي يتلقاها على الرسومات البيانية التي حددتها كليات الإدارة العامة. وفي الحقيقة، فإن أي وزارة تتمسك بسلطاتها البيروقراطية في مواجهة الرئيس تكون بذلك قد خسرت نصف المعركة بالفعل. كما أن الاتصال المتكرر بين الرئيس ومستشار الأمن القومي يجعل من المتعذر، من الناحية السيكولوجية، التمييز بين الأدوار الإدارية والأخرى الاستشارية المرتبطة بالسياسات.

في صورتها المثالية، تتمثل مهمة مستشار الأمن القومي في ضمان عدم إخفاق أي سياسة لأسباب كان من الممكن توقعها. ويعنى مستشار الأمن القومي بطرح جميع الخيارات الممكنة على الرئيس وأن أسلوب تنفيذ السياسة يعكس روح القرار الأصلي. من ناحيتها، تميل الوزارات ـ عادة ـ إلى الربط بين الروح المعنوية للعاملين بصفوفها وتنفيذ توصياتها، وتفسير القرارات الصادرة إليها طبقاً لأقرب معنى لمقترحاتها. وعليه، فإن دور مستشار الأمن القومي في الإصرار ـ إذا لزم الأمر ـ على طرح المزيد من الخيارات أو خيارات ذات طابع أكثر شمولاً أو التحلي بدقة أكبر في التنفيذ لا يلقى تأييداً واسع النطاق.

ويتمتع مستشار الأمن حتماً بميزة قربه الشديد من الرئيس، حيث يقع مكتبه على بعد 50 قدما من مكتب الرئيس، بينما يبعد مكتب وزير الخارجية عن المكتب ذاته مسيرة عشر دقائق. ويبدو أن هذا التباين منح مستشار الأمن القومي ميزة خاصة في إمكانية الاتصال بالرئيس. علاوة على ذلك، نجد أنه على الصعيد المؤسساتي، يكاد يقتصر عمل مستشار الأمن القومي على القضايا التي تستحوذ على اهتمام الرئيس. أما وزير الخارجية، فأمامه الكثير من الأشخاص الآخرين بمختلف أنحاء العالم من الضروري أن يهتم بأمرهم. وفي بعض الأحيان لا يشكلون أولوية بين اهتمامات الرئيس. إضافة إلى ذلك، يسافر وزير الخارجية باستمرار إلى الخارج، في الوقت الذي يبقى فيه مستشار الأمن القومي دوماً بالقرب من الرئيس. وتحتاج مثل هذه العلاقة بالرئيس إلى كياسة في التعامل لا ينجح مستشارو الأمن القومي في التحلي بها دوماً، بمن فيهم أنا.

على الجانب الآخر، يشكل استمرار روبرت غيتس في موقعه كوزير دفاع، عنصر توازن مهم داخل عملية إدارة البلاد، حيث يقف وحده ـ من بين جميع العناصر الفاعلة الكبرى في الإدارة ـ عند نهاية ـ وليس بداية ـ خطوط الإسهام في رسم السياسات. وبموافقته على الاستمرار في منصبه للقيام بدور انتقالي، لا يمكن اتهام غيتس بالتورط في المناورات لتحقيق المكاسب الشخصية التي تصاحب جميع الإدارات الجديدة. ولا بد أن الإدارة القادمة اختارته وهي مدركة تماماً أنه على غير استعداد للتخلي عن قناعاته السابقة. أما غيتس، فيتحتم عليه التكيف مع الانتقال من العمل مع إدارة إلى أخرى ـ وهي مهمة تم تكليفه بها تقديراً لأسلوب إدارته للوزارة في عهد إدارة بوش والذي خلا من أي ميول حزبية. ويضمن وجود غيتس توافر عنصر الاستمرارية، علاوة على كونه رائداً بمجال التوجهات الإبداعية الضرورية.

بالطبع، لا يمكن للعملية أن تعوض الجوهر، لكن فريق الأمن القومي الجديد يحيي الآمال في أن تتحرك أميركا لتتجاوز انقساماتها نحو استغلال إمكاناتها.

* مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون، ووزير خارجية في عهدي الرئيسين نيكسون وجيرالد فورد

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»