رحيل آخر الناشرين العرب

TT

كنت في كل مرة أمر على القاهرة أزور قبو مكتبته. وكان غيري أكثر حماسا، يزور القاهرة خصيصا للاطلاع على مجموعته الجديدة. كانت مكتبة الحاج مدبولي بالنسبة لكثيرين من العرب، مثل الاهرامات لكثير من الغربيين، محل علم وبيتا للدهشة. كان ينعشنا ان نطالع عناوين الكتب في مكتبة مدبولي، المرخصة منها والمحرمة. عندما تقابل صاحبها الحاج في محيط مكتبته تشعر بأنك آخر رموز التاريخ العربي القديم، حيث يستعرض الكتب على رصيف الطريق، مدركا ان القلة ستطالعها في الداخل او تحت الأرض.

كنا نعرف جيدا انه صاحب فضل كبير على العالم العربي، بحماسه الذي لم ينقطع، يمول سوق القراءة بالمزيد من الكتب، غير مبال بما يثار من احتجاجات، وقانعا بالقليل الذي تحققه له الكتب من ارباح.

لماذا لا يجرب هذا الرجل العصامي، الذي تعلم القراءة بنفسه وصار يعلمنا الثقافة، أن يطور صناعته؟

سألت احد المشاركين من رفاقه قبل سنوات في معرض للكتب. فمن المعروف ان مدبولي يملك اسما لامعا، وتجربة ثرية، ومكانة خاصة، وعناوين مثيرة، فلماذا لا يفعل ما فعله الناشرون السعوديون، الذين حولوا مكتباتهم الى شركات مساهمة؟ أو يجرب ما سبقته اليه مكتبة الساقي في لندن بالارتباط بشبكة توزيع المكتبات الجامعية الدولية؟ او يمتن علاقته مع دور النشر الاجنبية العالمية لتبادل العناوين معها؟ أو يطور البيع بالبريد السريع؟ او على الأقل يفتح فروعا لمكتبته، كما تفعل محلات الاطعمة السريعة ودكاكين الملابس الرياضية؟

اقنعني أنه لو كان مدبولي، وكذلك بقية الناشرين العرب، يملكون هذا التفكير التوسعي الربحي لربما ما اختاروا مهنة الكتب، فهي أقل المهن على الأطلاق ربحية. فاكثر الكتب مبيعا هي عناوين الطبخ وخزعبلات الطب الشعبي. اصحاب المكتبات الصغيرة حسموا امرهم منذ زمن بعيد حيث حافظوا على تسمية دكاكينهم بالمكتبات، حيث لا يزال اسم «المكتبة» محترما، لكنهم منحوا معظم مساحات «المكتبة» لبيع الادوات المدرسية والقرطاسية والعاب الاطفال.

تقرير مؤسسة الفكر العربي في اجتماعها الأخير في القاهرة صدم الكثيرين، رغم انهم يعرفون المشكلة مسبقا. ذكر التقرير ان هناك كتابا واحدا فقط يقرأ من كل اثني عشر ألف عربي، مقابل كتاب لكل خمسمائة بريطاني.

ومع اني ازعم معرفتي بظروف الناشرين العرب الصعبة، الا انني لا اشاطرهم حالة اليأس الدائمة، اشعر بأن هناك اجيالا جديدة محبة للقراءة اكثر مما كان، رغم ان الاعتقاد الشائع هو عكس ذلك. السر يكمن في المكتبات الالكترونية. رأيت كيف يحرص كثيرون على «انزال» الكتب الالكترونية رغم بدائية المواقع الالكترونية العربية، ورغم انه لا يوجد تيار منظم يشجع الشباب على القراءة، بل ان التطور الجديد جزء من الانغماس في عالم القراءة الالكترونية المتزايدة، واظن انها ستغير الكثير في مجتمعنا على المستوى الثقافي العام.

رحل عنا الحاج مدبولي الى رحمة الله، الرجل الذي لا تخلو مكتبة عربية من احد كتبه، تاركا وراءه الحقيقة نفسها، التي عايشها خلال الثمانين عاما الماضية، انه بلا كتب لا تقوم حضارة.

[email protected]