الكل يتحرك ويقترح ولكن.. من سيقنع أوباما؟

TT

أصبح الرئيس الأميركي الجديد على وشك أن يتسلم منصبه رسميا في 20/1/2009. ونشطت خلال هذه الفترة الانتقالية مراكز البحث والتخطيط القريبة من الحزب الديمقراطي، من أجل اقتراح سياسات دولية على الرئيس الجديد، على أمل الأخذ بها. وإذا كان هذا النشاط أمرا طبيعيا، فإن نشاطا آخر موازيا، عبر عن نفسه، إنما بالتطلع إلى غايات مختلفة. فالنشاط الأوروبي يتطلع إلى دور الشريك السياسي مع الولايات المتحدة الأميركية. ويتطلع النشاط العربي إلى محاولة التأثير على القرار السياسي الأميركي وهو في لحظة التحول من منهج المحافظين الجدد الإمبراطوري، إلى منهج التحاور والعودة إلى رحاب التعاون داخل مؤسسة الأمم المتحدة.

أما النشاط الإسرائيلي، فهو يدرك أن تغيرا استراتيجيا قد طرأ على المنطقة، وعلى طبيعة العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، بحيث لم تعد إسرائيل هي القوة الوحيدة المعتمدة، لفرض السيطرة الأميركية من خلالها على المنطقة العربية وجيرانها (ايران)، ولذلك فإنها درست وتدرس برمجة خطوات سياسية وقائية، لتخفيف الضرر الذي قد يصيبها بسبب هذا التغير في الوضع الاستراتيجي.

ومن الواضح أن الرئيس باراك اوباما، يراقب هذا الذي يجري ويحاول أن يستفيد منه، ولكن القرار في النهاية يبقى له ولإدارته، من دون أن يعني ذلك أن التحركات الدولية لا تؤثر عليه. وهو حين اختار فريقه الحاكم، عبر الاختيار عن وجهة سياسية معينة، تبتعد عن سياسات عهد الرئيس جورج بوش، وتبتعد عن أفكار ورؤى المحافظين الجدد، ولكنها لا تتنازل عن كل ما من شأنه أن يبقي الولايات المتحدة الأميركية القوة الأولى في العالم، والمقرر الأساسي في الأزمات الدولية. وسنستعرض هنا التحركات الأساسية للتفاعل مع السياسة الأميركية، أو للتأثير عليها.

أولا ـ اوروبا: أعدت وزارة الخارجية الفرنسية وثيقة أوروبية، كون فرنسا الرئيس الدوري الحالي للاتحاد الأوروبي. وسيتم طرح الوثيقة ومناقشتها خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي الذي سيبدأ أعماله غدا في بروكسل. وتتطلع فرنسا من خلال هذه الوثيقة إلى دور اوروبي مشارك للولايات المتحدة في قضايا الصراع العربي ـ الإسرائيلي، على أن تكون المشاركة هذه المرة سياسية وليست اقتصادية فقط، كما حدث منذ مؤتمر مدريد حتى الآن، بناء على رفض أميركي ـ إسرائيلي مشترك، لأي دور سياسي تلعبه أوروبا أو أية جهة دولية أخرى. تقول الوثيقة بلغة دبلوماسية واضحة الهدف «ينبغي تقوية العلاقات والتنسيق بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي». وتقول الوثيقة بوضوح أكبر «ينبغي العمل على تعزيز مراقبة المجتمع الدولي بكل ما يتعلق بتطبيق المرحلة الأولى من خطة خارطة الطريق».

تتطلع الوثيقة الأوروبية إلى حل نهائي وشامل للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وهي لا تفعل ذلك كمراقب كما كان الأمر في السابق، بل تحدد لأوروبا دورا مباشرا في معالجة قضايا الحل النهائي: الأمن والقدس واللاجئين، وذلك من خلال رؤى واضحة. فالقدس عاصمة للدولتين، والأمن تشارك اوروبا في بناء قواته وتدريبها وتنظيمها، وكذلك تشارك اوروبا في الإشراف على تطبيق ما يتفق عليه. واللاجئون سيتم العمل على تعويضهم فقط من خلال منظومة دولية.

وفي إطار هذا النشاط الأوروبي، تبادر بريطانيا إلى دور عملي مباشر، بعد أن وجه رئيس الوزراء غوردون براون دعوة إلى القادة الفلسطينيين (سلام فياض) والإسرائيليين (إيهود اولمرت) للالتقاء معه في لندن يوم 15 كانون الأول/ديسمبر الحالي «لبحث كيفية تحقيق تقدم حقيقي في عام 2009 نحو حلول سياسية واقتصادية في المنطقة».

ثانيا ـ النشاط العربي: لقد اتبع العرب في أحيان كثيرة سياسة انتظار للسياسة التي سيعلنها الرئيس الأميركي تجاه قضايا المنطقة العربية، ليتم بعد ذلك بدء التعامل العربي معها. ولكن بسبب ما تمثله الرئاسة الأميركية الجديدة من تغير في الاتجاه، فضل العرب كما يبدو، المبادرة لبلورة موقف عربي موحد، وإبلاغه مسبقا للرئيس الأميركي الجديد، وعلى أمل أن يكون لهذا الموقف تأثيره على بنود سياسته الجديدة. وتنفيذا لهذا الاتجاه تجري حاليا داخل الجامعة العربية اتصالات ومشاورات لإعداد ورقة عربية موحدة تقدم إلى الرئيس أوباما. ومن المرجح أن تكون مبادرة السلام العربية أساس هذه الورقة في ما يتعلق بموضوع الصراع العربي الإسرائيلي. ولا بد من بند آخر يتعلق بالموضوع الإيراني، وعلى قاعدة رفض السلاح النووي، ورفض التعامل العسكري مع إيران من أجل معالجة الموضوع.

ثالثا ـ الآراء الأميركية: تم إعداد الكثير من الأوراق والتوصيات، وقدمت كلها إلى الرئيس أوباما لتساعده في تحديد سياسته الخارجية، ولكن تقريرا مهما برز في هذا السياق، أعده الباحثون والسياسيون العاملون في مركزين: «مركز سابان للسياسات في الشرق الأوسط» الذي يديره مارتن إنديك السفير الأميركي السابق في إسرائيل، وهو جزء من معهد بروكينغز. والمركز الثاني هو «المجلس الأميركي للعلاقات الخارجية» الذي يرأسه ريتشارد هاس الذي تولى سابقا مسؤولية رسم السياسات الاستراتيجية في البيت الأبيض. ويلاحظ في هذه التقارير الأميركية أنها تواصل الدوران في إطار الاهتمامات الاستراتيجية السابقة، ومن دون إدخال أي تغيير عليها، باستثناء الدعوة لنقل التركيز من ساحة إلى أخرى.

مارتن إنديك مثلا يدعو إلى التركيز على معالجة الموضوع الايراني أولا. بينما يدعو آرون ميللر الذي كان مساعدا لديفيد روس في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية التي جرت تحت إشراف الرئيس السابق بيل كلينتون، يدعو إلى البدء بسوريا أولا، والسعي لإبرام اتفاق سلام بينها وبين إسرائيل، من أجل أن يتم إبعاد سوريا عن إيران تدريجيا، ومن أجل امتصاص قوة حزب الله (لبنان) وحماس (فلسطين)، ويتعطل بذلك تأثير ايران الإقليمي، ويصبح التفاوض معها ممكنا.

ولكن ما يلاحظ أيضا حول هذه النصائح الأميركية للرئيس، أنها تدعو كلها إلى عدم إعطاء الأولوية لحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. هنا يقول مارتن إنديك «إن الزمن لا يعمل لصالح دولتين لشعبين». ويدعو أرون ميللر إلى «التعامل» مع المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، من دون إيصالها إلى مرحلة الحسم والحل، يقول «سيادة الرئيس تقدم ..... وساند في هدوء المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، ولكن لا تنتقل إلى آخر مرحلة، فلن تصل إليها، وبدلا من ذلك استثمر جهودك في عملية السلام الإسرائيلي ـ السوري». ما هو موقف الرئيس اوباما من هذه النصائح؟ لا أحد يعرف حتى الآن، فالرئيس لم يكشف خططه بعد. إنما هناك مؤشر وحيد يشير إلى درجة عالية من الاهتمام بالموضوع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. فهو يريد تعيين مندوب رئاسي للتعامل مع هذه المسألة، يقدم تقاريره للرئيس مباشرة، مما يعني أن الملف الفلسطيني قد لا يكون تحت إشراف وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون. أخيرا ما هو الموقف الإسرائيلي من هذا كله؟ هنا يجب أن نلاحظ ما يلي:

أولا: الموقف السلبي الحاد الذي أعلنته وزيرة الخارجية الإسرائيلية في بروكسيل في كلمتها أمام أعضاء البرلمان الأوروبي ضد الوثيقة الأوروبية. قالت بلغة غير لبقة «لا نريد تدخلا من جانب المجتمع الدولي». وقالت «حماسة المجتمع الدولي قد تقود إلى فشل لا يحتمله أحد». وقالت «إن ما يحتاجه المتفاوضون الفلسطينيون والإسرائيليون هو أن يدعم المجتمع الدولي المحادثات الجارية، لا أن يطرح أفكاره الخاصة».

ثانيا: إقدام جهاز الأمن الإسرائيلي (23/11/2008) على إعداد وثيقة تحدد التهديدات التي تواجه إسرائيل، وأبرزها: ايران، والسلطة الفلسطينية، وحركة حماس، وحزب الله، والتسلح السعودي والمصري. وأبرزها أيضا التهديد الذي قد يأتي من جهة الولايات المتحدة الأميركية، من خلال فتح حوار أميركي مع ايران، أو الطلب من إسرائيل تخفيف ضغطها على لبنان، أو مواصلة أميركا تسليح مصر والسعودية بما يقوض التفوق النوعي للجيش الإسرائيلي.

إن هذه الرؤيا الاستراتيجية للمخاطر التي تهددها، تضع إسرائيل في مواجهة مع العالم كله، وفي مواجهة مع الأصدقاء والأعداء على السواء، وهي رؤيا غير طبيعية، قد تقود إسرائيل إلى اليأس، وقد تقودها أيضا إلى مغامرات مجنونة.

وبنظرة شاملة على كل هذه المواقف، نلاحظ أن أمورا كثيرة تسير باتجاه التغيير. فإسرائيل قلقة، وأوروبا طموحة للمشاركة السياسية مع واشنطن. والعرب متفائلون بأنهم يستطيعون التأثير على السياسة الأميركية. ويستحق هذا النشاط المتشابك، عناية ومتابعة من قبل مراكز السياسة العربية، لمواصلة فهمها من جهة، ولمواصلة محاولات التأثير فيها من جهة أخرى. فالعالم يتغير، ولكن يبقى السؤال المطروح بقوة: من سيقنع أوباما؟