وصفة إسرائيلية لسياسة أوباما الشرق أوسطية

TT

الرسالة واضحة ولا لبس فيها. والرئيس اللبناني ميشال سليمان، في اعتقادي أذكى من أن يخدعه الكلام عندما تكون الأفعال ظاهرة للعيان.

فالاستقبال الذي اعدته دمشق للنائب ميشال عون، الذي هو في أي عرف من أعراف العلاقات الدولية مجرد رئيس كتلة نيابية في البرلمان اللبناني، يعكس حقيقة نظرة الحكم السوري إلى لبنان كدولة وللرئيس اللبناني كرئيس دستوري لهذه الدولة. وجاء هذا الموقف الرسمي السوري غير المألوف في العلاقات بين الدول التي تحترم سيادة بعضها بعضاً، خلال أيام معدودات من استقبال مستغرَب آخر خصّ رئيس الدولة السورية به قائد الجيش اللبناني، مما يوحي بأن الإفراط في تكريم عون لا يفسّر استثنائية الأخير بقدر ما يثبت إصرار دمشق على استراتيجيتها اللبنانية التي اكتشفها كثيرون من اللبنانيين.. بعد فوات الأوان.

فدمشق عملياً تعتبر الرئيس سليمان «محطة مرحلية» على طريق عودتها إلى وضع اليد بالكامل على بلد يتواطأ بعض أهله معها على مصيره وعلى حرية قراره السياسي. وهي ترى في «اتفاق الدوحة» الذي سهّل انتخاب سليمان وثيقة مؤقتة ولكن بديلة لـ«اتفاق الطائف» الذي بدأت دمشق تنفيسه والسعي إلى إلغاء مفاعيله خلال أيام من توقيعه.

اليوم على أي راصد أن يكون على بيّنة من رهانات دمشق. وما يفضح هذه الرهانات ليس فقط وسائل الإعلام السورية الرسمية.. و«شبه الرسمية» في كل من سورية ولبنان، وليس كلام الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ومتعهد علاقاته الشرق أوسطية كلود غيان، بل كذلك الناشطين في كواليس «اللوبي الإسرائيلي» في واشنطن.

أصلاً، لم تعد خافية على من لا تستوقفهم الخطابيات النارية الفارغة والمضللة حقيقة التفاهمات الضمنية التي تحكم علاقة «الهدنة» الدائمة بين إسرائيل وسورية منذ 1974. فإسرائيل تفهم أن الحروب لا تخاض بالشعارات النضالية، بل على العكس، إذا كانت مثل هذه الشعارات ـ كتهديد الفرزدق ـ ستظل تنطلي على الناس... «فابشر بطول سلامة يا مربع»! ومن هنا كان الحرص الإسرائيلي على دعوة سورية إلى قمة انابوليس رغم تردّد جورج بوش «الابن». غير أن الجانب الأخطر أن إسرائيل ورجالها في واشنطن يضلِّلون في الموضوع الإيراني أيضاً، وهم يعملون على خطين: الأول يعلن حرصه على فصل المسار السوري عن المسار الإيراني، بينما يعمل الثاني على إجراء اتصالات تحت الطاولة مع طهران.. وما كلام علي لاريجاني في الأسبوع الماضي إلا دليل على أن صدقية التهديدات الإسرائيلية بضرب إيران من نفس مستوى صدقية «الممانعة» السورية ضد إسرائيل وواشنطن. ذلك أن إيران، كبلد يتمتع بحجم ومكانة متميزين إقليمياً، يشكل أهم رهان مستقبلي لأميركا في منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي، فإيجاد قواسم مصلحية مشتركة تُنسج تحت مبرّرات من نوع «مكافحة الإرهاب» (بعد إعادة تأهيل «حزب الله» عند الرأي العام الغربي) يصبح مسألة واردة. وحتى الآن يظهر أن الرئيس ساركوزي مقتنع بأن «أصولية» إيران شيء يمكن التعايش معه بينما «أصولية» غيرها شيء آخر.

أما عن «اللوبي الإسرائيلي» في واشنطن فترشح عنه وعن المقربين منه هذه الأيام، وسط العد العكسي لتولي إدارة الرئيس باراك أوباما الحكم، مقاربات جديرة بالتحليل. وهي كذلك لا لأنها جديدة.. بل على العكس تماماً، لأنها هي نفسها التي اعتمدها «اللوبي الإسرائيلي» في علاقته «المنشارية» التي تأكل بالطالع والنازل .. وتبتز الديمقراطيين والجمهوريين بالتساوي والتوازي كلما تبدّل ساكن البيت الأبيض.

فخلال أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) نشر آرون ديفيد ميلر، أحد نجوم كواليس «سلام الشرق الأوسط» في واشنطن، وأحد «مستشاري» عدد من وزراء الخارجية من الحزبين، مقالتين متتاليتين «بيت القصيد» فيهما واحد هو أولوية الحوار الأميركي مع سورية لتعذّر إحداث أي اخترق على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، لكن مع اختلاف طفيف في أسلوب التقديم كون الأولى كتبت لـ«الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية الليكودية والثانية لـ«الواشنطن بوست» الأميركية الليبرالية.

الدكتور ميلر، لا فض فوه، كتب في «الجيروزاليم بوست» بتاريخ 23 نوفمبر مدعياً أنه كان دائماً مؤمناً بمركزية القضية الفلسطينية في النزاع العربي الإسرائيلي، لكن الجديد الآن هو «أن التوصل إلى اتفاق ينهي الخلاف بين الإسرائيليين والفلسطينيين ربما ما عاد ممكناً». ويسمّى ضمن العوامل المؤثرة في هذا الشأن «العطل والارتباك» على الساحة الفلسطينية. ثم يقول «إلى أن تجد الحركة الوطنية الفلسطينية طريقة لفرض احتكار القرار إزاء القوى العنفية في المجتمع الفلسطيني فإنها لن تستطيع التقدم نحو بناء الدولة». ومن هنا ينطلق إلى إسداء النصح لأوباما «بالانطلاق كلياً نحو اتفاق إسرائيلي ـ سوري قابل للإنجاز، ومن شأنه تعزيز الصدقية الأميركية لمواجهة حماس و«حزب الله» وإيران مع مرور الوقت بخيارات صعبة، وتحسين موقع أميركا الإقليمي». هذا كلام ميلر للقارئ الإسرائيلي.

وخلال ثلاثة أيام كتب في «الواشنطن بوست»، للقارئ الأميركي هذه المرة، بالمعنى نفسه، لكنه كان أكثر مباشرةً في الترويج لاتفاق إسرائيلي ـ سوري برعاية أوباما. هنا أيضاً أكد ميلر أن لا أمل يرجى من البحث في الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي بسبب الانقسام الحاصل عند الجانبين، في حين أن الحوار بين إسرائيل وسورية يحصل بين «دولتين» وليس بين «دولة وحركة وطنية معطلة». وهنا يفصّل ميلر أكثر بشرح مصلحة أميركا في حوار طويل الأجل مع دمشق «لأن فطام سورية عن علاقة عمرها 30 سنة مع إيران يحتاج لأن يحصل تدريجياً، ويحتاج لجهد دولي كبير لتأمين الدعم الاقتصادي والسياسي لدمشق. ويبقى أن اتفاق سلام إسرائيلياً ـ سورياً سيضع حماس و«حزب الله» وإيران أمام خيارات صعبة وعدد أقل من البدائل المتاحة».

هذا التلاعب التسويقي يكشف فعلياً، ما يلي:

- الحكم السوري لا يشكل أي خطر على إسرائيل، بل هو الشريك الإقليمي الفعلي لها.

- دمشق مستعدة هذه المرة، كما في كل المرات السابقة أن تقبض من واشنطن وتل أبيب ثمن حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في دولته المستقلة.

- دمشق وطهران أسهمتا إسهاماً مباشرا في خلق حالة «العطل والارتباك» الفلسطيني التي غدت مبرّراً لإهمال أي مسعى جدي على المسار الفلسطيني.

- لا توجد نية حقيقية عند إسرائيل لضرب إيران أو حماس و«حزب الله»، والمسألة برمتها مسألة خفض سقف مطالب إيران في صفقة إقليمية كبرى.