تسييس الأضاحي

TT

ليس كل ما يضحى به في يوم العيد كبشا أو بقرة أو جملا، فهناك تضحيات من نوع آخر ولعلكم لا زلتم تتذكرون كيف كان صدام حسين الأضحية الأشهر في التاريخ الإسلامي، وقبله بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة ضحى خالد القسري بالجعد بن درهم بسبب قولته بخلق القرآن، الفرق بين الحادثتين أن الضحية الأولى بطلها حاكم والثانية أيضا بطلها حاكم ولكنه المضحي، إلا أن الجغرافيا تجمعهما فكلا الأضحيتين في العراق.

تقول المصادر التاريخية إن الجعد بن درهم هو صاحب عقيدة القول بخلق القرآن، فَقَبَضَ عليه حاكم العراق خالد القسري وَقَتَلَه يومَ عيدِ الأضحى، وخطب الناس وقال: «ضحوا ـ تقبل الله ضحاياكم! ـ فإني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم؛ فإنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا، فنزل فذبحه».

ليس الملفت في هذه الأضحية في يوم الأضحى المبارك أن حاكما قتل رجلا، فهذا ليس بمستغرب بين حكام الجور والبطش والجبروت، فالمبررات معلبة وجاهزة وقت الطلب ولكن الملفت هو في حجم التأييد الذي ناله حاكم العراق في قتل رجل بسبب بدعة عقدية، حتى أن العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ وصف هذه الحادثة شعرا فقال:

شـكر الضحية كل صـاحب سـنة

للـه درك مـن أخـي قربـان

إذ أنه من الصعب أن نقبل بأن يذهب برجل إلى المذبحة بسبب بدعة عقدية كتلك التي تفوه بها الجعد بن درهم، وإلا كان من لازمه تقديم عشرات الألوف ممن يتأولون في عدد من المسائل العقدية إلى المقصلة إذا لم يتراجعوا عنها، وهذا ما لم يرصده التاريخ لنا إلا في قصة تضحية حاكم العراق خالد القسري بالجعد بن درهم، كما أننا لا نعلم في تاريخ الخلفاء الراشدين وأئمة الهدى من بعدهم أنهم قتلوا أحدا بسبب البدعة في العقائد، ومعلوم في السياق التاريخي أن البدعة في العقائد وجدت منذ القرن الأول الهجري، وكان العلماء يقارعون هؤلاء المبتدعة الحجة بالحجة ولم يتدخل الحاكم السياسي بالقتل أو التنكيل إلا في حالات نادرة.

وأغلب هذه الحالات النادرة التي تدخل فيها الحاكم بالقتل أو التعذيب بسبب نصرة عقيدة معينة نلاحظ أنها أعطت نتيجة عكسية، فالجعد بن درهم الذي قتله حاكم العراق لم ينشر بدعة القول بخلق القرآن، وإنما انتشرت وصار لها صيت بعد مقتله حيث التقط الفكرة الجهم بن صفوان ونشرها في كل مكان، وحين تدخل الحاكم بالتعذيب لنصرة القول بخلق القرآن كما فعل المأمون والمعتصم حين عذبوا ونكلوا بالإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه الذي سجل موقفا بطوليا جعل بدعة القول بخلق القرآن تذوي وتنزوي بحيث لم يعد يعتقد بها من المسلمين إلا نسبة بسيطة جدا، ولم ينفع هذه الفكرة مناصرة الحكام لها واستخدام الترغيب والترهيب في الترويج لها.

وآخر ضحايا الفكر في تاريخنا المعاصر سيد قطب رحمه الله، فما كان لأفكاره أن تنتشر بهذه السرعة والتأثير القوي لولا أن جمال عبد الناصر قتله بسبب فكره غير مكترث بتدخلات وتوسلات العاهل السعودي الراحل الملك فيصل رحمه الله، فذهب الجاني والجماهير لا تعرف من ذكراه إلا حرب الأيام الستة المخزية، وأما المجني عليه فقد شرقت المشنقة بأفكاره وغربت.

[email protected]