دعوة للفرح

TT

مسكين هذا «المواطن العربي»، لا يدري كيف يتخلص من دواعي البكاء والحزن. الحزن عنده جزء من الدين، من الثوابت الوطنية. الحزن درجة ثامنة في سلمه الموسيقي، وغرض أساس من أغراض شعره العربي.

فهو إذا دخل الحسينية خرج منها باكياً على الحسين، وإذا استمع إلى جلسات البرلمان بكى على مستقبل الوطن، وإذا خاطبته السلطة بكى خوفاً على نفسه، وإذا استمع إلى المعارضة بكى خوفاً على الوطن. أما إذا قرر أن يستنجد بشيء من الشعر، فإنه يخرج من ديوان العرب بعد أن أبكاه امرؤ القيس طالباً ثأر أبيه، وأشجاه قيس باكياً بين يدي ليلاه. وإذا أتيحت له فرصة للاسترخاء ومشاهدة التلفزيون أطلَّتْ عليه مذيعاتُ نشرات الأخبار، اللاتي رغم أناقتهن المفرطة، إلا أني لا أدري لماذا عندما أراهن تتبادر إلى ذهني صورة النائحات منكوشات الشعر اللاتي اجتمعن ذات يوم يبكين قتلى معركة «بُعاث» في ساحات يثرب. أما إذا امتلأ هذا المسكين رعباً من نشرة الأخبار، وسئم رؤية نائحات يثرب، وأراد أن يبحث عن شيء من التسلية، فإن فناناً أصيلاً يطالعه من الشاشة ليلقنه كيف يجيد البكاء بين يدي حبيبته.

وفوق ذلك فإنه إذا دخل عمله، خرج باكياً من رب العمل، وإذا دخل السوق خرج نادباً حظه، وهو معرض لتهديدات السلطة، وتخيفه تهويلات المعارضة وترهقه طلبات زوجته، ويخشى على مستقبل أولاده. وهو مع ذلك لا يأمن دنياه ويخاف من آخرته.

من هنا جاءت فكرة الدعوة إلى الفرح التي أعرف أنها لن تعجب وعاظ الحسينيات ولا مذيعات نشرات الأخبار، كما أن قيس بن الملوح لن يتحمس لها، وامرأ القيس سيحاول إجهاضها قبل أن ترى النور. هل تعرفون لماذا؟

لأن هؤلاء لا يستطيعون تكوين جمهور واسع عريض يتحكمون فيه كما يشاؤون ويستفيدون منه متى أرادوا إلا إذا أوصلوا هذا الجمهور إلى درجة الشعور بالحزن العميق الذي يجعله مسلوبَ الإرادة، يسير مع الناعقين حيث ساروا.

وبشكل مختصر، فإن المذكورين سيعارضون هذه الدعوة لأنهم لا يسعهم العيش من دون مهرجانات جنائزية تسير فيها الجموع في حالة من البكاء المخيف، لغاية يعرفها جيداً منظمو هذه المهرجانات.

امرؤ القيس مثلاً (مع تقديري لموهبته الشعرية) لن تغريه الدعوة إلى الفرح، لأنه يهمه أن يظل الناس يبكون على أبيه طلباً لثاراته الشخصية، وقيس (مع اعترافي بشاعريته) لن يكف عن البكاء، لأنه يظن أنه بذلك يخطب ودَّ ليلى ويثبت مدى وفائه لها. وعاظ الحسينيات (مع جمال أصواتهم) لن يدعوا إلى الفرح لأن الدعوة إلى الفرح ستفقدهم سيطرتهم على الجماهير الغفيرة الباكية على جرم لم ترتكبه. مذيعو الأخبار (مع احترامي لأناقتهم) لن تعجبهم الدعوة إلى الفرح، لأنها ستفقدهم جمهورهم العريض الممتد من الأطراف الشرقية لخيمة «عبس» وحتى الأقاصي الغربية لخيمة «ذبيان».

ألا تلاحظون أن عدد القنوات المتشحة بالسواد قد كثرت الكثرة التي تجعل المرء يتساءل عن المغزى من ذلك اللون القاتم المنسرب إلى حاضرنا من أعماق التأريخ. وكأن الأسود الناتج عن الحاضر المعاصر لا يكفي حتى تم استدعاء التاريخ ليضفي على السواد لوناً من القداسة والعراقة في الوقت نفسه، ولكي يمتد الأسود القاتم من كربلاء إلى طنجة في سياسة واضحة لاستلاب «المواطن العربي» فكرياً ونفسياً بالعزف على أكثر الأوتار حساسيةً في نفسه لتحقيق مكاسب سياسة. ولكن ما ذنب أولئك الذين يخرجون إلى الساحات ويسيلون دماءهم في مهرجانات واضحة لجلد الذات؟ وكأن السياط اليومية التي يساطون بها صباح مساء لا تكفي حتى يجلدوا أنفسهم على جرم ما اقترفوه! ما ذنبهم وقد خرجوا في مهرجانات النياحة التي تذكرنا بالتقاليد العربية القديمة التي كانت النائحات تحيي بها الليالي بكاءً على قتلى «داحس والغبراء».

إن الذي لا يزال يعزف على وتر ضحايا التاريخ، إنما يسعى بشكل واضح لاستمرار مأساة كربلاء، وأن يعمم نموذج عاشوراء. وما الحسين بمستفيد من ذلك بشيء، ولا أولئك المساكين الذين يسيلون دماءهم تذكراً لمأساته. الحق أن المستفيد هو ذلك الكامن وراء الستار يحرك المشاهد والشخوص لتسير الأحداث وفقاً للحبكة السياسية، التي أدارها أبو مسلم في خراسان حتى وصل بها إلى بغداد.

أنا لا أنكر أن الحسين قتل مظلوماً، وأن عثمان قتل قبله مظلوماً أيضاً، ولكني أرفض رفع دماء الحسين للوصول إلى بغداد، كما رُفع قميص عثمان من قبل للوصول إلى دمشق. كما أنني لا أنكر أن قتلى كثيرين قتلوا في حروب «البسوس» الطويلة بين بكر وتغلب، ولكني اشمئز لمنظر النائحات المتشحات بالسواد اللاتي كلما زادت أعطياتهن من دنانير ابي ليلى المهلهل، زاد بكاؤهن على الملك كليب.

لذلك ولكل ما سبق أعتقد أنه آن الأوان، لأن نقول لوعاظ الحسينيات ولكل أولئك المعممين بالسواد: ألقوا عنكم هذا اللون القاتم واخلعوا عنكم ملابس العزاء علَّكم تعرفون طريقاً إلى بسمة جميلة ربما تضيء في أرجاء هذا الفضاء المشحون بصرخات الباكين على الحسين. لنقل لأولئك الذين أخذوا على معاوية رفعه قميص عثمان، بينما عَينهُ على دمشق: إنكم تفعلون الشيء نفسه برفعكم دماء الحسين وعيونكم على العراق.

ولنقل أيضاً بشجاعة لرعاة المهرجانات الجنائزية: نحن لم نقتل الحسين، وما اعتدينا على عثمان، ولسنا مستعدين لتحمل أية مسؤولية تأريخية تجاه ضحايا الأمويين والعباسين والعلويين، لسنا مستعدين أن ندفع ثمن ثارات قريش التي ليس لنا فيها ناقة ولا جمل. ولنقل كذلك لبواكي الملك كليب: يكفي ما ذرفتن من دموع وما اكتسبتنَّ عليها من أموال، لملمن شعوركن وبارك الله سعيكن، اذهبن مأجورات إلى مضارب أخرى وأهالي ضحايا آخرين.

وأنت أيها الشاعر الواقف منذ زمن بعيد تبكي ليلى العامرية، أما آن لك بدلاً من هذا البكاء الطويل وهذه القصائد الفجائعية، أما آن لك أن تسأل نفسك: لماذا هجرتك ليلى وبحثت عن رجل آخر؟ ألم تعلم بعدُ أنها ضجَّتْ وضاقت بك وبقصائدك العصماء، وأنها بحاجة إلى قلبٍ دافئ ووجه بشوش باسم. الحق أنها على حق عندما تركتك ونياحتك وبحثتْ عن عيشة هانئة وتركتْ لك الخرائب والأطلال التي بدلاً من أن تسعى أنت لتعميرها وقفتَ طويلاً تبكي عليها.

فيا كل أولئك المنظمين للكرنفال الجنائزي، أيها العازفون على الأوتار الفجائعية والواقفون على منصات سوق عكاظ، أريد أن اقول لكم: «إنني أنا الموقع أدناه في حاجة إلى أن أفرح، من حقي كغيري من الناس أن أجد مساحة ولو صغيرة أشعر فيها بفرحتي بأولادي وأهلي وأصدقائي، من حقي أن أفرح بأعيادي، أن أفرح بيومي من دون أن يعكر عليَّ الماضي أفراحي ومناسباتي، ومن دون مزيد من قصائد الرثاء والبكاء.

لا أريد أن أدعو مجدداً نائحات يثرب إلى مناسباتي، وأطالب بمنع امرئ القيس من دخول سوق عكاظ، وأعلن أنني لا دخل لي بثاراته الشخصية التي سخر شعره لخدمتها، كما أعلن انحيازي التام للحسين وعدالة قضيته، ولكني أرفض تسخيرها لخدمة أغراض أبي مسلم في مهرجانات اللطم والتطبير والبكاء، التي تدعو إلى أن تكون كلُ أرض كربلاء وكلُ يوم عاشوراء.

* كاتب يمني مقيم في بريطانيا