عملية توحيد أمريكا؟!

TT

لم يسبق، ولم يلحق، موضوع «العبودية» والعلاقة مع الأمريكيين من أصول أفريقية، موضوع آخر في تقسيم الولايات المتحدة الأمريكية والرأي العام الأمريكي. وحتى قبل قيام الدولة كادت القضية أن تكون سببا في عدم قيامها من الأساس، فقد اتفق الأمريكيون على الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية، ما عدا قلة ظلت على ولائها للتاج البريطاني وهربت إلى كندا، إلا أنهم لم يتفقوا بعد ذلك على ما يجب عليهم فعله إزاء «العبيد». وكما هي العادة جاءت الحلول الوسط لكي تحل مشاكل السياسة على الأقل بشكل مؤقت، وجاء إعلان الاستقلال الأمريكي لكي يتحدث عن المساواة وحقوق الإنسان في الحياة والحرية والسعي نحو السعادة باعتبارها حقوقا لا يمكن تجاوزها، ولكن من ناحية أخرى جاء الدستور الأمريكي لكي يصادق على بقاء نظام الرق، وجاء الاتفاق السياسي لكي يجعل العبودية مقبولة في الولايات الأمريكية التي تريد ذلك على أن تكون الولايات الجديدة التي تنضم إلى الولايات الثلاث عشرة المؤسسة للاتحاد ولايات حرة، لا رق فيها، ولا عبيد.

ولكن الحلول الوسط تبقى على تناقضاتها حية ومشتعلة خاصة في أوقات الأزمات الكبرى، وهو ما أبقى المجتمع الأمريكي على انقسامه الذي لم يلبث أن قاد إلى الحرب الأهلية خلال النصف الأول من ستينيات القرن الثامن عشر، والتي رغم انتهائها بتحرير العبيد وإنهاء نظام الرق من كل الولايات الأمريكية الجديدة والقديمة؛ إلا أن القضية بقيت في النسيج الاجتماعي والاقتصادي ـ وبالتأكيد السياسي ـ الأمريكي حتى جاءت حركة الحقوق المدنية بعد قرن من الحرب الأهلية لكي تضع ما جاء في إعلان الاستقلال الأمريكي قبل قرنين موضع التنفيذ. وما جرى بعد ذلك في العقود التالية كان محض تفاصيل، ونضالات أشخاص لكي يرتفع الواقع إلى مستوى المبادئ والقوانين؛ وربما كانت قصة باراك أوباما خريج جامعة هارفارد، وزوجته ميشيل أوباما خريجة جامعتي برنستون وهارفارد؛ قصة تحكي في كيفية الانطلاق من واقع صعب حتى الوصول إلى البيت الأبيض الذي تم بناؤه على أكتاف العبيد!

ولكن انتهاء قضية العبودية والرق في الولايات المتحدة لم يعن أبدا نهاية الانقسام الأمريكي، بل انه مع نهاية القرن العشرين، ورغم الانتصار الساحق للولايات المتحدة في الحرب الباردة، فإن المجتمع الأمريكي كان قد بات مقسما أكثر من أي وقت مضى. وربما كانت الانتخابات الأمريكية ـ للكونجرس والرئاسة ـ المتتالية خلال العقدين الأخيرين عاكسة بشكل واضح لهذا الانقسام حينما استقر الديمقراطيون في الولايات الساحلية كثيفة السكان سواء على المحيط الأطلنطي أو الهادي أو حول بحيرة ميتشيجان في وسط الغرب، بينما استولى الجمهوريون على قلب أمريكا في ولايات وسط الغرب والجنوب وجبال الروكي. وكان الانقسام بين الديمقراطيين والجمهوريين حول الأمريكيين من أصول أفريقية قد انتهى حتى قبل وصول أوباما إلى البيت الأبيض وحينما تم تعيين كولين باول وكونداليزا رايس في مناصب رئيسية وحاكمة في الإدارة الجمهورية؛ ولكن الانقسام كان عميقا في كل شيء آخر.

فمن ناحية كانت السياسات الاقتصادية المحافظة منذ إدارة ريجان قد وسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء في الولايات المتحدة بدرجة كبيرة؛ ولم تكن القضية بين الطرفين قضية فقر وغنى بقدر ما كانت قضية سياسات مرتبطة بها حيث كان الأغنياء والضالعون في الطبقة الوسطى جزءا من عملية العولمة والحركة العالمية للتبادل التجاري والاستثمار؛ بينما كان الفقراء أكثر محافظة في هذا الاتجاه عندما وجدوا أن الخروج إلى العالم يهدد وظائفهم وأعمالهم وإمكانيات الصعود الاجتماعي لديهم. وامتد هذا الانقسام إلى الموقف من الهجرة الخارجية خاصة من الأمريكيين من أصول لاتينية والقادمين من المكسيك وبقية دول أمريكا الجنوبية الذين تدفقوا على الولايات المتحدة حتى تفوقوا من حيث العدد على الأمريكيين من أصول أفريقية. ولم يكن خطر الهجرة، أو الفرصة التي تتيحها من حيث العمالة الرخيصة بالنسبة لآخرين، متوقفا على المسألة الاقتصادية، ولكنه كان ممتدا إلى المسألة الثقافية حيث باتت اللغة الإسبانية منافسة بقوة للغة الإنجليزية في مناطق عديدة من الولايات المتحدة؛ وفوق اللغة جاءت الكاثوليكية لكي تفرض هي الأخرى قيما محافظة تتناقض جذريا مع التطورات الليبرالية التي جعلت من «زواج المثليين» جزءا من تقاليد ولايات مثل ماساشوستيس حتى أنه من الجائز أن جون كيري فقد الانتخابات الأمريكية لعام 2004 لأنه جاء من هذه الولاية المفرطة في ليبراليتها.

وربما جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لكي تلقي مزيدا من الزيت على نيران الانقسامات الأمريكية حينما قسمت الأمريكيين مرة أخرى بين الذين يريدون مزيدا من الاعتماد على السلاح لمواجهة عالم «يكره» أمريكا، رغم كل ما قدمته للدنيا من مساعدات وتكنولوجيا ونظم سياسية واقتصادية وإدارية ملهمة؛ وبين هؤلاء الذين كانوا على يقين من أن هناك شيئا ما غير صحيح في السياسة الأمريكية جعلها محط الاعتداء المباشر وهي التي ظنت أنها كانت محمية وراء محيطين كبيرين ومن ورائهما ومن أمامهما ومن فوقهما ترسانة عسكرية لا يوجد لها مثيل في العالم ولم يعرفها التاريخ.

كل ذلك جعل أمريكا مقسمة كما لم تكن مقسمة من قبل؛ وعندما ضربتها الأزمة الاقتصادية كان متوقعا أن يزداد انقسامها ما بين الخلاف حول مسؤولية ما جرى، والخلاف حول من سوف يدفع ثمن الكارثة. ولكن باراك أوباما جاء ليقوم بعملية واسعة لتوحيد أمريكا تبدو مدهشة للغاية، فقد بدأت خلال الحملة الانتخابية ذاتها حيث كان أوباما جزءا من عملية توحيد الطبقة الوسطى الأمريكية، وجاء فوزه الساحق بين الشباب كما لو كان فوزا لأمريكا القادمة على حساب أمريكا الذاهبة المنقسمة على نفسها حول أمور لا تستحق الانقسام. وبشكل ما بدا انتخاب أوباما كما لو كان في حد ذاته عملية توحيد مثيرة حيث كانت قصة حياة الرجل كما لو كانت قصة في لقاءات الأضداد، وتوحيد الانقسامات، والعبور بين قارات ومحيطات، وفي شخصية أوباما بدا العالم أصغر كثيرا عما كان عليه من قبل، وأن القربى بين البشر على اختلاف تنوعاتهم العرقية والدينية، أكبر مما كان متصورا في أي وقت مضى. وعندما كسر أوباما القاعدة وفاز في ولايات لا شك في نقاوتها الجمهورية كان في الواقع يقوم بأكبر عملية توحيد عرفتها أمريكا منذ وقت بعيد. ولعل ذلك انعكس على القرارات الأولى التي اتخذها أوباما فيما يخص تشكيل حكومته، وفريق العمل الذي سوف يعمل معه، فمنذ اللحظة الأولى التى فاز فيها بدأ خطوات تجاوز الصدع الذي أحدثته الانتخابات الأمريكية. وكانت نقطة البداية حتى قبل يوم الانتخابات الأمريكية عندما قام برأب الصدع الذي جرى بينه وبين منافسته هيلاري ردمان كلينتون حتى كانت واحدة من أهم أسباب نجاحه وحتى ضمها إلى حكومته وفي أهم منصب وزاري وهو منصب وزير الخارجية؛ ولكنه لم يفعل ذلك مع هيلاري فقط وإنما مع بايدن الذي أصبح نائبا للرئيس، وريتشاردسون الذي أصبح وزيرا للتجارة، وكلاهما كان من المنافسين على الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي. وما لا يقل أهمية عن ذلك أنه مد اليد إلى الجمهوريين فمد يده إلى منافسه جون ماكين في لفتة سياسية ماهرة، كما احتفظ بوزير الدفاع الجمهورى جيتس، ولا يزال الطريق مفتوحا نحو المزيد من الشخصيات الجمهورية. ولم يكن العبور إلى «الخصوم» بالمناصب فقط، وإنما بدأ العبور أيضا بالفكر حيث انتقل أوباما من يسار الوسط إلى قلب الوسط أو حتى يمينه قليلا.

وليس معنى ذلك أن الخلافات والانقسامات الأمريكية قد انتهت، فالخلافات والانقسامات جزء أساسي من جوهر النظام الديمقراطي، ولكن المهم أن انتخاب أوباما وضع الأساس لتحقيق التوافق الأمريكي. فكما قيل من قبل أن الولايات المتحدة قامت على سلسلة من الحلول الوسط لمسائل شائكة مثل العبودية وغيرها في السياسات الداخلية والخارجية؛ فإن أوباما جعل ذلك ممكنا بأكثر مما كان عليه الحال في أي وقت مضى خلال العقود الثلاثة الأخيرة وربما قبلها أيضا !