المغرب العربي.. حلم عنيد

TT

بدعوة من مؤسسة التميمي بتونس، سيلتقي الجامعيون من أقطار المنطقة بعد أسبوع من الآن، للتباحث فيما يضيعه علينا جميعا عدم إنجاز مشروع اتحاد المغرب العربي. وقد تعددت الندوات التي دعانا إليها من قبل د. التميمي للتباحث في كلفة اللامغرب، وفي هذه المرة تفاهم مع رئيس جامعة تطوان د. مصطفى بنونة على تنظيم لقاء للتباحث في دور الجامعات في بناء المغرب العربي. وذلك بالذات في طنجة حيث ولد الحلم.

ومنذ أيام كنا في ضيافة مركز الدراسات السياسية والدستورية بجامعة مراكش، حيث استطاع رئيسه د. مالكي أن يجمع تونسيين وليبيين وجزائريين إلى جانب مغاربة، لرصد ما هو حاصل عندنا وفي العالم من حولنا، في الوقت الذي نحن متوقفون في مشروعنا. إننا نجتر نفس المقترحات التي تلوح، كلما التقى مغاربيون وقارنوا بين مصير مؤتمر طنجة في أبريل 1958، وبين نداء روما الذي أطلقته ست دول أوربية من أجل جمع الجهود للتنسيق فيما بينها بشأن الفحم والفولاذ.

وفي قمة مراكش (17 فبراير 1989) كان قد تقرر استدراك ما فات. وكان قد ظهر حينئذ أنه ليس ضربا من التعلق بالخيال التطلع إلى جدولة واقعية كفيلة بأن تنقل المغرب العربي من الورق إلى الواقع. فقد دار نقاش طويل لمدة عقد من الزمان، في إطار لجنة تقنية، ثم وزارية، للدول التي أسست الاتحاد، حول التخطيط لمسيرة اقتصادية منسقة. وعلى هدي ورقة تضمنت رؤية استراتيجية تم استنباط مخطط مضبوط للتحرك. وتجابهت إذاك وجهات نظر إرادوية وأخرى براغماتية، وانتهى الأمر إلى صيغة توفيقية توقعت أن تقام منطقة للتبادل الحر بين الدول الخمس قبل نهاية 1992، وأن يقام الاتحاد الجمركي قبل 1995، وسوق مشتركة في أفق سنة 2000، ثم يتوج ذلك بالانصهار في اتحاد اقتصادي.

كان هذا التصور قد رأى النور في يوليو 1990. وتبين بعد عقد من الزمان أن الإرادوية لم تكن تطيع الاعتبارات الموضوعية. ويمكن أن يضاف إلى ذلك اليوم أن قرارات الحكومات كانت غير متكيفة مع الآليات المتاحة، ومع قواعد العمل المعمول بها عالميا، تلك القواعد التي انضمت إليها الآن كل دول المنطقة، وإن بسرعات متفاوتة.

وليس سرا أن العائق الأساسي دون إنجاز المشروع المغاربي هو استمرار فكر وطني ضيق تتزايد حمولته الشوفينية مع مرور الزمان، وهو يحول دون التفكير في أفق مغاربي. ولا أحد يتصور أن هناك فوائد حقيقية تنعكس بكيفية إيجابية على كل واحد من الأقطار الخمسة، إذا ما تحققت مشاريع منسقة ومشتركة في مجالات البناء الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.

وما يظهر بكيفية ملموسة هو أنه لا يوجد مثل هذا الاقتناع، وبالعكس كل طرف يرى أنه لن يحقق مكسبا، إذا ما أخذ بالمقاربة الوحدوية. وهناك طرف أو أطراف بعينها، قد ترى أن المغرب العربي يجب أن ينتظر بعض الوقت، إلى أن تتمكن من الارتقاء إلى مرتبة تمكن من أن تحقيق المصلحة الذاتية. أي أنه منذ تسعة عشر عاما، أو يزيد، لا أحد يرى أن له مصلحة حيوية في أن يقام فورا اتحاد المغرب العربي.

في اجتماع عقد مؤخرا في طرابلس بليبيا، حول الاندماج المغاربي، لم يسع مدير صندوق النقد الدولي إلا أن يلاحظ أن الاندماج الاقتصادي في المغرب العربي «مسألة ملحة تتطلب الإسراع بها حتى لو تطلب تضحيات كبيرة وتنازلات سياسية مهمة». ولم تجد جريدة «لو كوتيديان دوران» (19/11/2008) في هذا القول إلا أن السياسي الاشتراكي الفرنسي المذكور، وهو دومنيك ستراوس كاهن، ميال إلى المملكة المغربية. والدليل هو أنه لا يقيم وزنا للشعب الصحراوي، ويدعو إلى التضحية بمبدأ مقدس(كذا).

والواقع أن سلفه في هذا المنصب الإسباني، رودريغو راطو، وهو يميني من حزب أثنار، كان قد أدلى في الجزائر نفسها سنة 2005 بكلام مشابه، حيث نبه إلى أن التبادل التجاري فيما بين بلدان المنطقة ضعيف جدا لا يتجاوز 2 في المائة من مجموع تجارة الخارجية لكل واحد منها. وكان قد قال إن أسواق بلدان المنطقة صغيرة نسبيا (ولا يغتر أحد) ومنعزلة بعضها عن بعض، والأفق الوحيد الذي أمامها هو أن تنفتح على بعضها البعض، وأن تسرع بالاندماج. وبتزايد حجم السوق تزداد أهميتها في أعين المستثمرين.

وهذا ما كان قد دعا إليه البنك الدولي منذ ثلاثة أعوام، حيث ركز تقرير له، عن تحديات المغرب العربي، على ضرورة تكثيف التبادل فيما بين دول المنطقة (مرة أخرى) وذكر أن دول المنطقة يجب أن توجِـد في الـ20 سنة القادمة 22 مليون منصب شغل.

وقد أعيد في الأسبوع الماضي نشر نتائج لدراسة أنجزها خبراء وزارة المالية المغربية أظهرت أن اللامغرب يعني الحرمان من 2.1 ملياري دولار في السنة، وهو ما يعادل 1.6 في المائة من الدخل الوطني. وقد استندت تلك الدراسة إلى مقارنات مع اتحادات إقليمية قائمة مثل مجموعة آسيان، واستنتجت أن المغرب وتونس يمكن أن يشهدا ارتفاعا لصادراتهما نحو بلدان المغرب العربي يتراوح ما بين 6 في المائة (المغرب) و10 في المائة (تونس)، في حين أن حصتيهما حاليا لا تتجاوز، بالتتابع 1.6 و 2.5 في المائة. وبإدراج المحروقات يمكن توقع أن ترتفع مساهمة الجزائر في التجارة البينية إلى 6 في المائة.

إن هذا المنطق الجماعي يغيب كلية عن بعض أصحاب القرار في الأقطار المغاربية، ويتجلى ذلك في تدني التبادل والتنسيق والتعاون، وهي أهداف مضمنة في الوثائق المؤسسة للاتحاد، أيام تحركه، ولكن يبدو وكأن تلك البنود أبرمت في غفلة ممن وقعوها. إن كل التدابير التنسيقية المتفق عليها عن طيب خاطر، يتم نسيانها «عن ظهر قلب».

ولا تصدق هذه الملاحظة إلا في حالة العلاقات البينية. أما حينما يتعلق الأمر بعلاقات أقطار المنطقة مع أطراف دولية أخرى، فإن حسابات أخرى تدخل في الاعتبار. وهذا ما يتضح مثلا في حالة التدابير الأمنية المتفق عليها في إطار خمسة + خمسة، حيث تلتزم الدول المغاربية بما تبرمه مع دول غرب المتوسط. وكذلك الأمر فيما يرتبط بالقرارات المتخذة في نطاق التعامل مع الحلف الأطلسي. وحتى فيما يتعلق باتفاقات الشراكة مع الاتحاد الأوربي.

لقد تسرب نوع من التسمم إلى العلاقات البينية جعل اللاثقة تستوطن فيما بين دول المنطقة. وليس معيبا أن تسود حسابات قطرية، فكل حكومة من الحكومات الخمس مطالبة من لدن شعوبها بأن تحقق لها مكاسب. ولكن العيب يكمن في العمى عن المصلحة الواضحة التي يكفلها ترشيد العلاقات الجهوية. وقد أصبح التذكير بضرورة التعاون والتنسيق يتواتر من لدن المنظمات والأطراف الدولية بكيفية ملحة في السنوات الأخيرة. بل إن خط أنبوب الغاز الجزائري نحو أوربا الذي يخترق المغرب، قد تم إنجازه بقرار أوربي. حدث ذلك في زمن مضى. والآن يدور الحديث عن قرب تعويض ذلك الأنبوب بأنبوب يجري بناؤه حاليا عبر البحر مباشرة بين الساحلين الجزائري وإسبانيا.

هناك عوامل تعثر كثيرة، بعضها أصبح يدخل في مجال يقترب من علم النفس المرضي، ولا يمكن تفسيره فقط من زاوية علم السياسة.