مقديشو.. ما كانت تأسر السفن!

TT

بلغت السفن والبواخر التي استولى عليها وهددها قراصنة الصومال أكثر من عشرين سفينة وباخرة، ومنها ناقلات ضخام للنفط، مثل الناقلة التابعة للمملكة العربية السعودية، التي مازال يساوم عليها القراصنة في عرض البحر، ويبدو انهم الطرف الأقوى، لأنهم مستميتون بتهديدهم. وما كانت تظهر القرصنة بهذه القوة من أرض الصومال لولا غياب الدولة، وإباحة السلاح وتشكيل العصابات، ومنها القراصنة، وهم لصوص البحر، وحسب «المنجد» فإن القرصنة هي مفردة إيطالية، لا وجود لها تحت الجذر العربي «قرص»، فما للعربية والبحر وهي التي نشأت في عرض البر!

تبدو صورة القرصان في المخيلة، من خلال ما يقدم من أفلام ويُحكى من حكايات، أنه ذلك الرجل الشرير، معصب العين الواحدة، مخيف الهيئة، مملؤاً بالقسوة، ومع ذلك لم تنكر الشعوب الاسكندنافية أنها تحولت من (الفايكنك) إلى الحضارة الإنسانية التي تنعم شعوبها فيها الآن، حيث تمر بها السفن آمنة، ويلجأ إليها مَنْ ضاقت به أركان بلاده. وبطبيعة الحال وواقع الثقافة يصعب تخيل أن الصومال سيحذو حذو تلك التجربة، ويأتي يوم تعرض فيه أدوات قراصنته إلى المتاحف مثلما فعلت تلك البلدان مع تاريخ قراصنتها.

يشهد الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ) لمقديشو بسلامة السفن التي ترسو على شاطئها، ولعله الوحيد من البلدانيين المعروفين وصلها عبر البحر من عدن وحل ضيفاً على سلطانها، حيث ركب منها مدة تسع عشرة ليلة. قال: «ومن عادة أهل هذه المدينة أنه متى وصل المركب إلى المرسى تصعد الصنابق، وهي القوارب الصغيرة، إليها ويكون في كل صنبوق جماعة من شبان أهلها، فيأتي كل واحد منهم بطبق مغطى فيه الطعام، فيقدمه لتاجر من تجار المركب، ويقول: هذا نزيلي، وكذلك يفعل كل واحد منهم، ولا ينزل التاجر من المركب إلا إلى دار نزيله من هؤلاء الشبان إلا مَنْ كان كثير التردد إلى البلد، وحصلت له معرفة أهله» (الرحلة).

أما صاحب الرحلة فلم يكن تاجراً بل عرف نفسه فقيهاً، لذا نزل ضيفاً على قاضي المدينة. وقد أسهب ابن بطوطة بوصف مجلس السلطان وكيفية إدارة مقديشو وطبيعتها وعمرانها، وصناعتها. فهي حسب تاريخها ومعنى اسمها «مقعد شاه» بلدة قديمة جمع معناها بين العربية والفارسية. نقول: شهد الرحالة بسلامة وصول السفن لساحل مقديشو لأنه تحدث كثيراً عمَّا تعرض له من سلب وقرصنة خلال رحلته بالبلاد الهندية وغيرها.

وحتى وقت قريب لم تعرف مياه البحر العربي، أو المحيط الهندي، قرصنة مثل ما يحدث للسفن المارة في الخطوط المائية الدولية بمحاذاة الصومال، إلا بعد تشرذم هذه البلاد، وتعدد مراكز القوى المتنافرة فيها، وتغذيتها من مصادر دولية، ترى فائدة في أسر ناقلة نفط، أو سفينة بضائع، أو مركب حربي. ففي كل المقاييس لا يمكن لجماعة صومالية بمفردها الهيمنة على عرض البحر وبهذه القوة.

أُهمل الصومال وترك يأكل بعضه بعضاً، بعد فشل التجربة الأمريكية في عهد الرئيس كلنتون، حتى الخشية من تحوله إلى مقر بديل للقاعدة، وعندها دخلتها القوات الإثيوبية عنوة، لكنها لم تعد إلى الصومال الدولة، ولا الأمن للصوماليين. وبالتأكيد ان بلدا غير آمن، خاليا من دولة وقانون، وفيه ما فيه من مجاهل الطبيعة وشدة العوز وقوة الأبدان، لا ينعم جاره ولا الطرق المارة به بسلامة. صحيح أن الصومال (قيل في معناه السواحلي: اذهب واحلب) ليس بلداً استراتيجياً بالاقتصاد أو الموقع، لكنه أرض مفتوحة الأبواب وخصبة لتجارة السلاح، حتى غدت الصوملة تطلق تحذيراً.

أرجو من القارئ أن لا يأخذ الاستشهاد بقول ابن بطوطة على أنه ترف، إنما هي تداعيات أزمنة وتجارب مدن، فإدارة مقديشو، حسب الوصف، بهذا النظام، والتعامل مع البحر، وما يأتي إليها منه من سفن، وبعد قرون تحولت إلى مصدر للقرصنة، تلك المفردة التي أُلغيت من قاموس الشعوب، هي أمر في غاية الأهمية، يشير إلى تدهور حضاري بالقيم والمفاهيم. فلو أخذنا مقديشو في ذلك الزمان وقابلناها بأي مدينة كان يحكمها القراصنة في الشمال الأوروبي آنذاك، كيف ستكون المعادلة، وما هي التصورات حول مستقبل كل منهما!

أين الخطأ وما هي الأسباب، ومسؤولية ما، أو مَنْ، كل هذا الانحدار المتتالي؟! والأمر بطبيعة الحال لا ينحصر بعاصمة الصومال مقديشو، التي أوردها ابن بطوطة بمقدشو، إنما يسري على العديد من مدن العرب والشرق بشكل عام، فأي مدينة تجتمع لها الظروف والأسباب، مثلما اجتمعت للمدن الصومالية، سيمارس أهلها القرصنة، وتغترب عن تاريخها البعيد والقريب كل الاغتراب.