مومباي تحت الحصار

TT

كانت شفتا الرجل ملتويتين، لكني عجزت عن تحديد ما إذا كان ذلك بسبب شعوره بالاشمئزاز، أم لمشكلة صحية يعاني منها. كان ذلك الرجل بدينا وأصلع الرأس، وقد سار نحوي وسط حشد كبير من الناس، ولم أدر لم اختارني على وجه التحديد. ثم اقترب مني هامساً في أذني: «تشينمايا أتى يا سيدي، تشينمايا يا سيدي!».

ولم أتمالك نفسي من الدهشة وسألته: «من تشينمايا هذا، سيدي؟» وأثناء تكراري الكلمة مراراً في ذهني، أدركت ما يريد قوله، وسألته: أتعني الممثل الأعلى؟

وهنا أومأ الرجل رأسه بشدة، ثم تفوه بلفظ نابٍ وقال: «لماذا جاء؟ سيطلقون الرصاص عليه وسيسقط صريعاً!»، وذلك في إشارة إلى الممثل الأعلى، الذي يشكل رأس الحكومة هنا في ولاية مهاراشتا الهندية.

ووقفنا منتظرين خارج فندق تريدنت على ساحل مومباي، حيث أقدم الإرهابيون على قتل وإصابة المئات. وقد عاينا جميعاً مشاهد مفزعة لحرائق وتفجيرات وجثث وإطلاق نار في الشوارع. ومع ذلك، فلم يكن يحدث الكثير هنا أمام فندق تريدنت، من بدء هذه المذبحة. وأثناء وقوفي، قابلت أشخاصاً يشعرون بالقلق على أقارب لهم، وصحافيين يسعون بجد نحو الحصول على أنباء جديدة ـ علاوة على أشخاص عاديين تصادف وجودهم بالمنطقة يعرضون صورا متنوعة من المساعدة.

وفي واقع الأمر، فإن الوضع العام في هذه المدينة بات منافياً للعقل والمنطق، في الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن الإرهاب، ويبدو الأمر وكأنه تحول إلى عامل جذب سياحي.

وبصورة عامة، يسود شعور عام بالوداعة لم أعهده خلال الفترات اللاحقة مباشرة للتفجيرات السابقة. ورغم مشاعر الغضب واليأس المتأججة داخلي وفي رسائل البريد الالكتروني وعلى شبكة الإنترنت عامة، فإن ذلك يتنافى مع ما أعاينه الآن في هذا المكان.

ويدفعني هذا الأمر للتساؤل: هل اعتدنا على الإرهاب؟ وإذا كانت الحال كذلك، فهل يعتبر ذلك أمراً جيداً، لأنه يعني أن مثل تلك الأعمال لن تتمكن من إرهابنا بعد الآن؟ أم أن ذلك يعتبر أمراً سيئاً، لأنه يعني أننا نتوقع وقوع المزيد منها؟

وقد شاهدت مراسلاً تلفزيونياً يتحدث إلى إحدى السيدات والتي كانت تقف لمشاهدة الأحداث. ولم أتمكن من الاقتراب بدرجة تمكنني من الاستماع إلى ما تقوله. أعتقد أن ما كانت تحكيه أمر جلل، وإن كان ذلك لا يبدو على وجه زوجها الذي كان يقف إلى جانبها، فطوال الدقائق التي سلطت خلالها الكاميرا على وجهها، وقف زوجها بجانبها يحيط كتفها بذراعه وتعلو وجهه ابتسامة زهو ولسان حاله يقول: «انظروا، زوجتي تظهر على شاشة التلفزيون!».

وفي مكان آخر، توقف شاب وقدم هاتفه الجوال إلى صديقه واستعد بحماس لأن يتم التقاط صورة له كما لو كان يقف أمام سيارة لامبورجيني حديثة، حيث وقف مشدود الصدر، واضعاً يده على ظهر السيارة. لكن السيارة التي يقف أمامها لم تكن لامبورجيني، وإنما طراز تويوتا تحمل عبارة تايمز ناو ـ اسم قناة تلفزيونية ـ على جانبيها.

وبعد دقائق طويلة من إخباري بوصول الممثل الأعلى على لسان الرجل المجهول، وصل المسؤول بالفعل، لكنه كان نائب الممثل الأعلى. وفوق الرؤوس المندفعة وكاميرات التلفزيون التي تم رفعها للأعلى، تمكنت من رؤية العديد من ضباط الشرطة مدججين بالسلاح يتحركون إلى الأمام، وخلفهم سيارة بيضاء طراز إمباسادور ـ وهي سيارة قديمة لكن لا تزال الطراز المفضل لدى المسؤولين الهنود. وتوقفت السيارة ليخرج منها نائب الممثل الأعلى آر آر باتيل، وهو رجل قصير ذو مظهر يبعث على الضحك. وتوجه المسؤول، محاطاً برجال الشرطة، للتشاور مع الأفراد المسؤولين عن العملية. وفي وقت لاحق، توجه للحديث إلى وسائل الإعلام. حينئذ، تصاعدت الحركة والنشاط بالمكان، وارتفعت كاميرات التلفزيون مجدداً. ورغم أن طولي يبلغ ستة أقدام، لم يعد بمقدوري رؤية أي شيء. ولاحقاً، أخبرني صحافي كان محظوظاً بوقوفه إلى جوار المسؤول، عما صرح به، وهو أن خمسة إرهابيين لقوا حتفهم حتى الآن، وأُلقي القبض على واحد، وربما ما يزال ما يتراوح بين 10 و15 آخرين بالداخل.

عاد باتيل إلى سيارته وبدأ الحرس المرافق له في الهرولة، وتحرك موكبه نحو فندق تاج محل، الذي كان يشهد مواجهة أخرى مع الإرهابيين. وفي هذه اللحظة، أدركت أن المرأة الطويلة التي تقف إلى جواري تفعل ما أفعله تماما، ألا وهو العد، ففي وقت تضرب فيه أعمال عنف، يتحرك نائب ممثلنا الأعلى في موكب مؤلف من ثلاثة رجال شرطة على دراجات بخارية ويرتدون خوذات و10 ـ أؤكد 10 ـ سيارات أخرى ممتلئة برجال الشرطة المسلحين.

ولوحت المرأة بيدها في الهواء تعبيراً عن دهشتها. ومر الموقف من دون أن يطلق الإرهابيون الرصاص على مسؤولنا. وفي خضم هذا الجنون، شعرت برغبة قوية في الحديث إلى رجل كان يضرب يديه ببعضها البعض. وبالفعل، توجهت للحديث إلى الرجل الذي بدت عليه علامات حيرة بالغة، وكانت هناك الكثير من الحالات المشابهة.

وقال الرجل إن أحداً لا يجيب على الهاتف الجوال الخاص بشقيقة زوجته، وما من مجيب كذلك على الرسائل النصية التي يبعث بها إلى الهاتف. وأعرب الرجل عن اعتقاده بأنه في خضم حالة الذعر التي سادت المكان، لا بد أن الزوجين قد فقدا الهاتف. ولو كان الحال خلاف ذلك، وحتى لو كانا محتجزين كرهائن لدى الإرهابيين، لا بد وأنهما كانا سيتوصلان إلى سبيل لبعث أي رسالة لأقاربهم.

كانت صديقة صحافية تعمل على وضع نسخة مسائية خاصة حول الحادث قد طلبت مني إخبارها حال تعرفي على أمثال هذا الرجل بين الزحام المحيط بالفندق، وذلك كي تنشر قصصهم. وعندما ذكرت هذا الأمر للرجل، بدا أكثر حيرة، وإن اختلط صوته بنبرة غاضبة، وقال: «ما الجدوى من الحديث»، وأشاح بوجهه بعيداً عني. وأخذ يتمتم وهو يكاد يتعثر أثناء سيره: «هذا هو كل ما نفعله. الحديث والحديث! فهل سيعيدهم إلينا؟».

وبعد ساعة، توجهت إلى فندق تاج محل، وهو مبنى مألوف لي تماماً بضخامته وأسراب الحمام التي تتخذ من الأجزاء الناتئة من الفندق أعشاشاً لها. بحلول لحظة وصولي، كانت النيران التي شاهدتها على شاشات التلفزيون قد خمدت، لكن حتى من على بعد قرابة مائتي ياردة، كان باستطاعتي مشاهدة البقع السوداء الهائلة التي خلفتها الحرائق على الجدران، والتي بقيت كتذكار على المأساة.

وشاهدت سلماً طويلاً يخص قوات المطافئ يرتفع لأعلى، متجاوزاً الكثير من النوافذ والحمائم، التي تصدر ضوضاء بخفق أجنحتها لدى مرور السلم أمامها، لكن سرعان ما تتجمع من جديد على أحد الأسلاك. وظل السلم يمتد لأعلى، حتى توقف خارج نافذة مصممة على النسق الفرنسي في الطابق الأعلى. كان هناك رجلا إطفاء على السلم، ومع اقتراب السلم من النافذة، مد أحدهما قدمه للخارج باتجاه النافذة. وهنا تساءلت في نفسي حول ما إذا كان يفكر جدياً في تحطيم النافذة بقدمه؟

وعلى ما يبدو، تحرك بعض الأشخاص عبر النافذة إلى السلم، وأقول «يبدو»، لأن أشعة الشمس كانت قوية، وكان الجو غائماً والمسافة بعيدة، لذا لم يكن باستطاعتي تحديد ما يدور. بعد ذلك، بدأ سلم المطافئ في الانكماش ببطء، في طريقه إلى الأرض. وبعد دقائق، دوت أصوات صفارات الإنذار الخاصة بسيارة الإسعاف التي شقت طريقها وسط الحواجز القائمة. وبالقرب مني، سمعت هتافات إشادة وثناء.

أثناء وقوفي لمشاهدة كل ذلك، شعرت بيد تلمس كتفي، في البداية اعتقدت أن صديقاً يرحب بي، لكن اتضح أنها يد رجل متقدم في العمر لا أعرفه ويتصبب العرق من جبينه، كان يحاول المضي قدماً. وأومأ الرجل برأسه ليشكرني لاستناده بيده على كتفي.

ثم سألني: «هل ما يزال هناك أناس بالداخل؟»، وبدا أن الجميع متلهف لسماع الأنباء، فبمجرد أن شرعت في الرد عليه، بدا كل من حولي منصتين لما أقول. واقترب أربعة أو خمسة رجال للاستماع إلى ما أقوله، لكن للأسف لم يكن لدي أنباء جديدة لأطلعهم عليها. وأجبت الرجل بأن: «أعتقد أنه يجري إجلاء بعض الأشخاص. يمكنك مشاهدتهم من هنا». وتساءل الرجل: «لا أعني هل هم أحياء أم تم قتلهم؟«، في إشارة للإرهابيين. أجبته: «لا أدري». وهنا أدار الرجل وجهه وتلفظ ببعض السباب. ولم أدر ما إذا كان السباب موجها إلي أم للإرهابيين.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)