ابني يركض مع «تيار المردة»!

TT

عندما عرضت مدرسة ابني ان يشارك التلامذة وبأكبر عدد ممكن في ماراثون بيروت السنوي، الذي خصص هذا العام لصالح مرضى السرطان، شعرت بالواجب الذي يناديني وينادي كل من يريد ان يدعم لبنان ومرضاه. ولا بد أن أهالي كثيرين فكروا مثلي، وتحمسوا لإرسال أطفالهم بمعية أساتذتهم إلى الماراثون، الذي يجتمع له لبنانيون من كل المناطق ليركضوا ويتنافسوا ويمرحوا ويعيدوا إحياء الوسط التجاري لبيروت بالبراءة والسماحة. هذه السنة وصل عدد العدائين المشاركين إلى ثلاثين الفاً، أي ان النجاح كان عارماً، وعاد الأطفال ومعهم الكبار مبتهجين بميدالياتهم والروح الجماعية التي انعشوها في وسط عاصمتهم. ولما كان على كل عدّاء ان يفتح موقع الماراثون الإنترنتي كي يعرف ترتيبه ويحصل على صورته، فقد فعلنا ما كان ينتظر منا ووقعنا على مفاجأة مذهلة. فقد وجدنا اسم ابني وترتيبه، وإلى جانبهما اسم المجموعة التي ركض تحت لوائها، ولذهولنا انها لم تكن المدرسة وإنما «تيار المردة» الذي يتزعمه سليمان فرنجية. والأسوأ من ذلك ان المدرسة كلها التي يفترض انها مؤسسة تعليمية محايدة، ركضت باسم تيار سياسي من دون أن تدري، على ما يبدو. وكل ما استطعت أن أعرفه بعد ذلك ـ رغم إلحاحي للحصول على جواب لهذا اللغز المقيت ـ هو ان مدير المدرسة الأجنبي الواصل حديثاً إلى لبنان، ويجهل اللعبة السياسية وفيروساتها الفتّاكة، وقع في فخ لا يعرف دهاليزه وخفاياه، وأن أحدهم لا بد خدعه، بالطريقة اللبنانية المعسولة، كي يفوز بعدة رؤوس صغيرة وبريئة تركض باسم المردة، وتقوم بدعاية لهم، ولو غصباً عنها. وسؤالنا، ما علاقة هؤلاء الأطفال بالسياسة؟ ولماذا توظيفهم والغدر بهم وبمدرستهم وعائلاتهم؟ وماذا لو في غمرة فرح الماراثون قرر مخبول ينتمي لتيار سياسي آخر الاعتداء عليهم؟ أما كان من حق الأهل ان يعرفوا سلفاًُ باسم من يركض أطفالهم ولأي غاية يوظفون؟ كلما اقترب موعد الانتخابات ازداد السياسيون استشراساً وشهروا أنيابهم للانقضاض على القيم بما فيها قيمة الطفولة. وبات واحدنا يخشى ان يتضامن حتى مع نفسه خشية ان يكون ثمة من دبر له مقلباًً. وكنت منذ أيام قد دخلت البنك الذي أتعامل معه ولفتتني الشارات التي وضعها الموظفون على صدورهم، وعندما سألت قيل لي انهم يتضامنون مع مرضى السيدا، وعرضوا ان اتضامن معهم ففعلت. وما ان خرجت من البنك حاملة الشارة على صدري، حتى رأيت الناس يبحلقون بي، هذا يعلق بكلام غير مفهوم، وذاك يتعجب أو يضحك وآخر يقطب الجبين، حتى التقيت بصديق بادرني بالقول: «شو صرتي مع المستقبل؟». عندها فقط فهمت ان التباساً بين بنفسجي السيدا وأزرق تيار المستقبل، هو الذي جعل المارة يستغربون ويحدقون. فنزعت الشارة سريعاً، مخافة أن يبادرني متعصب مجنون بطعنة سكين، أو ينتقم مني أحمق يكره المستقبل ببلطة على رأسي. ومن لحظتها قررت ان اوقف كل أشكال التضامن حتى إشعار آخر. فقد صادر السياسيون الألوان بمجملها تقريباً، فهذا شعاره الأخضر وذاك البرتقالي وغيره الأحمر، وصار الناس يخشون الألوان كي لا يفهموا خطأ. وعلمت أن لوثة السياسة دخلت الصفوف وفسادها بات يسمم حتى الانتخابات الصغيرة التي تجرى لاختيار مندوبي الصفوف. وأن بعض التلامذة الصغار، تيمناً بالفاسدين الكبار من السياسيين يدفعون الرشاوى لزملائهم كي يصوتوا لهم، في غفلة من رقابة أو حساب. ولا عجب ان نرى كل هذا، فكل شيء بات يدور في فلك السياسة بما فيها معارض الكتب التي باتت تطوب بأسماء أحزاب وزعامات، ولا تشذ المستوصفات الصحية التي تتبع بتمويلها طالبي سلطة وشراة اصوات.

وبمقدورك في لبنان ان تلقي تهمك على الجميع، من دون أن تشعر بأي وخز ضمير. فالروح النقدية في غيبوبة، والمعترضون على الفساد والإفساد لا صوت لهم ولا وزن لنقيقهم، فهم كالضفادع الصغيرة على ضفاف مستنقعات نتنة هائلة المساحة. وكل شيء في هذه الأزمة المالية بات صالحاً للشراء والتوظيف: ماء الشرب، دواء الأطفال، ربطة الخبز، كيس السكر، والزفت أيضاً. ولزفت الطرقات في لبنان مع المواسم الانتخابية تاريخ طويل، حيث يتقاتل السياسيون على الزفت لتوزيعه على الناخبين لتبييض وجوههم بحلكة سواده. ولعل أرخص السلع في مثل هذه المواسم الانتخابية هي كرامات الناس التي تعودوا بيعها بأبخس الأثمان. ومن لا يقبل بهذه الصفقات الموبوءة، سيجد من يقف له على أول مفترق ليخدعه بكمين ما ينصبه له، كما حدث مع أطفال الماراثون، إذ تبين لي وأنا أراجع لوائح الأطفال الراكضين ان تيار المردة جاء بمجموعات منهم من كل المناطق. وإذا كنت على دراية بما حصل في منطقتي، فالسماء وحدها تعرف كيف تمت خديعة الباقين.

والمسؤولية اولاً وأخيراً هي على عاتق المواطنين، الذي طبعوا صور الزعماء ووزعوها على شوارعهم وأزقتهم، ووعدوا هذا بـ«الولاء إلى الأبد»، وذاك نصبوه «قائداً عظيماً» أين منه صلاح الدين، وآخر رفعوا له شعار «الطاعة ما دمنا أحياء»، وغيره اعتبروه «مارداً» أو «عملاقاً» لا يضاهى. وباختصار فإن الانتخابات النيابية قبل أشهر من موعدها، تشي بأنها ستكون أسوأ من سابقاتها. وزعماء البلد الذين يتوارثونه اباً عن جد، يزدادون غطرسة وسفاهة، وهم في ذلك محقون. فحين يقرر الشعب أن الولاءات أبدية والزعامات العائلية لها في نفوسهم ما يشبه القداسة، يشعر الزعيم المتوج مدى الحياة أن من حقه أن يشتري الناس ويبيعهم متى شاء، ومن حقه أيضاً أن يقطع عنهم الهواء النظيف وينزع البراءة حتى عن الألعاب الرياضة التي اشترى ذوو النفوذ نواديها، ووظفوا لاعبيها وغسلوا دماغ مشجعيها، وتركوهم دمى في ملاعب لا يملكون منها سوى التصفيق والزعيق والنعيق.

[email protected]