رحيل «الحاج»

TT

المكتبات مثلها مثل الحدائق العامة هي رئة أي مدينة. وفي العالم العربي كان لكل مدينة مكتبتها وتاريخ طويل يرتبط بهذه المكتبة. فبيروت لديها مكتبة «أنطوان» بشارع الحمراء، ودمشق لها مكتبة «النوري» بالقرب من أسواق الحميدية، وفي الكويت هناك مكتبة «قرطاس»، وفي البحرين توجد المكتبة «الوطنية» والرياض لديها «نادي الكتاب» والقاهرة لديها «مدبولي». كان يكفي أن يذكر «مدبولي» في أي جلسة ثقافية إلا ويقوم كل واحد من الحاضرين بسرد تجربة شخصية مع المكتبة وصاحبها الذي رحل، «الحاج» مدبولي. توفي صديق القراء ومساند المؤلفين. توفي محمد مدبولي، صاحب المكتبة الأشهر بميدان طلعت حرب وسط العاصمة المصرية. أسلوب العرض في المكتبة لم يكن الأمثل، طريقة التكديس لم تكن الأكثر ملاءمة، حتما لم يكن توزيع المساحات داخل المحل الضيق مناسبا بمعايير التسوق والترويج الحديثة، ولكن هكذا تجربة التسوق و«التمكتب» عند مدبولي. لا أعلم اذا كان لديه ألوان أخرى لجلبابه الذي كان يرتديه، ولكن على الأغلب كانت كلها جميعا نفس اللون البني الفاتح، كلامه قليل ويرد التحية بأدب جم، ويدع فريق المبيعات يقوم بشرح آخر الإصدارات لبيعها لرواد المحل. كان المحل الأهم في ترويج الكتب، وكان الناشر الأجرأ والأكثر إثارة للجدل. تعرض للعديد من المواقف المحرجة مع المسؤولين والوزارات بحجة «مخالفته» لبعض أنظمة النشر ولكنه كان يرى دوره مهما لنشر الأفكار بحرية (مع عدم إغفال أهمية الجانب التجاري أيضا)، كان مشاركا دؤوبا في معارض الكتب العربية وغير العربية. يشارك في المغرب وتونس ولبنان واليمن والشارقة والكويت والبحرين وطهران وفرانكفورت، جناحه كان مليئا بالزائرين لإدراكهم التام بأنهم على موعد مع كل ما هو جديد. إذا ما تعود على زواره وزبائنه تمكن من معرفة أنواع الكتب التي تستهويهم وبعدها يأخذهم في زيارة خاصة «للمخزن» وهي عبارة عن غرفة ضخمة فيها الكتب «الممنوعة» والتي فيها عدد من الكتب أكثر من المكتبة نفسها (ولكن هذه عجائب مصر!). فالكل يعرف عن وجود الكتب الممنوعة هذه، بل إن الكثيرين من المسؤولين أنفسهم ما يشترون منها ومع ذلك تترك لشأنها. خلف الحاج مدبولي أجيالا أخرى ففتحت محلات مدبولي «الجديد» ومدبولي «الصغير» (هناك هوس في مصر بموضوع الصغير، فهناك مصفف الشعر محمد الصغير والمغني سعد الصغير والمطربة نجاة الصغيرة!)، ومع ذلك ظل الهاجس الأكبر للحاج مدبولي نفسه. تدنت نسبة القراء وتغيرت طباعهم وأساليبهم في القراءة، ودخلت الى الساحة دور نشر جديدة وحديثة مثل دار الشروق وبيسان والساقي بأسلوب أكثر مهنية وأشد حرفية، وظل أسلوب الحاج مدبولي البسيط وغير العصري محببا لدى من اعتاد عليه. ساند الكثير من الكتاب في إصداراتهم الأولى، وكانت لديه عين ثاقبة في معرفة ما هو الكتاب الذي سينجح ولعل آخر «خبطاته» كان رهانه على علاء الأسواني ودعمه في كتاب «عمارة يعقوبيان» وهي الرواية التي أنقذت دور النشر العربية وأعادت المتعة للقراءة من جديد. رحم الله الحاج مدبولي فهو سيترك فراغا هائلا في دنيا الكتب والمكتبات.

[email protected]