البطرك ألكسي.. والمسارات الأرثوذكسية الجديدة

TT

تُوفّي قبل أيام البطرك ألكسي الثاني رأس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. وكان قد تولّى المنصب البطريركي، في أهمّ كنيسةٍ أرثوذكسيةٍ في العالم عام 1990، أي قبل عام من سقوط الاتحاد السوفياتي. وفي الاحتفالات الضخمة التي جرت بمناسبة الوفاة، والتي شارك فيها للمرة الأولى منذ مائة عامٍ أركانُ الدولة الروسية وجماهير حاشدة؛ تحدث الخبراء عن ثلاثة إنجازاتٍ للبطرك ألكسي: الأول أنه استعاد مئات الأديرة، وأحيا مئات الكنائس، وبنى مئاتٍ جديدةً، واستعاد الأوقاف الدينية ـ وكُلُّ ذلك كانت الدولة الشيوعيةُ قد صادرتْهُ بعد الثورة البلشفية عام 1917. والأمر الثاني أنه استعاد وحدة الكنيسة الروسية، بعودة الكنائس الروسية إلى تبعيته في أوروبا والولايات المتحدة؛ وهي الأبرشياتُ التي كانت قد انفصلت بحجة مصارعة النظام الشيوعي، الذي اضطَهد الدينَ والكنيسة. أمّا الأَمْرُ أو الإنجازُ الثالثُ الذي حقّقهُ فهو التحالُف الوثيقُ العائد أيضاً بين الكنيسة والكرملين، أي بين الدين والدولة، رغم أنّ الدولة ما تزالُ علمانية.

إن المعروفَ أنّ المركزية الموجودة تاريخياً في الأرثوذكسية، لا تُضاهي ولا تُقاربُ تلك التي في الكنيسة الكاثوليكية. لكنّ بطرك القسطنطينية في الدولة البيزنطية؛ كان بحكم علاقته بمركز الإمبراطورية، يُضاهي في اتّساع النفوذ، ومنذ القرن الحادي عشر الميلادي، ما كان مشهوداً به لبابا روما في الجزء الغربي من الإمبراطورية. والخلافُ على المرجعية بين روما والقسطنطينية هو الذي قاد إلى الانفصال بين الكنيستين العالميتين عام 1054/1055م. وقد بلغ من هول ذاك الصراع أنْ أقْبل فرسانُ الصليب ـ وفي سياق الحروب الصليبية ضد المسلمين والتي بدأت عام 1095م ـ على غزو القسطنطينية في إحدى الحَمَلات بدلاً من الذهاب باتجاه القُدْس! وزعامةُ العالَم الأرثوذكسي هذه، والتي تمتدُّ من الشام ومصر وإلى تركيا واليونان، وأكثر أجزاء شرق أوروبا والبلقان، انتقلت كلُّها إلى حضن «روسيا المقدَّسة» الدافئ بعد سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين عام 1453م. ويرجعُ ذلك لثلاثة أمور: صيرورة الكنيسة الأرثوذكسية جزءًا من هوية الشعوب السُلافية وعلى رأْسها روسيا. وأنّ «روسيا المقدَّسة» هي التي تسلّمت الراية في الدفاع عن الأرثوذكسية، وصار القيصر الروسي رأساً للكنيسة، كما كان الإمبراطور البيزنطي رأساً لها من قبل ـ واستمرار التنافُس والصراع مع البابوية والكاثوليكية إلى أن تحطّمت «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» التي كان البابوات يقودونها في غرب أوروبا ووسطها.

لقد عجزت الكنيسةُ الروسية في العهد الشيوعي بروسيا عن الحركة، وتعرضت للقمع والاضطهاد بحجة سوء كل الأديان، ولأنّ الكنيسة كانت حليفة القيصرـ فتعرضت لفُقدان الاتجاه، وللانكفاء إلى الكنائس والأديرة القليلة الباقية، والمسموح بها تحت إشراف الحزب الشيوعي. وأذكر أنني قرأْتُ كتاباً للدكتور جورج حنّا يعودُ للعام 1950 أو1951 ـ وهو أرثوذكسي عربي، وكان من زُعماء الحزب الشيوعي اللبناني فيما أحسب ـ يقرر فيه أنه في زيارته الطويلة لروسيا عام 1949، ما رأى في الكنائس والمساجد القليلة الباقية مفتوحةً، غير بعض العجائز. وهذا المصيرُ، كما قال، لا يعود للاضطهاد كما يُزعَمُ، بل لعدم إحساس«الإنسان السوفياتي المتقدم» بالحاجة إلى هذه الخزعبلات! وقد كان بين نتائج تلك الواقعة التاريخية: انكفاء الكنيسة الأرثوذكسية في سائر أنحاء العالم الأرثوذكسي من جهة، وانصراف الأجيال الشابّة عنها ـ مثلما جرى للكنيسة الكاثوليكية في غرب أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين-، بل واتجاه هؤلاء للراديكاليات العاملة ضد الدين وضدّ الوعي الذاتي، بالدخول في الأحزاب الشمولية أو الإثنية مثل الحزب الشيوعي أو الحزب السوري القومي ـ والقابلية ثالثاً أو رابعاً للدخول في مشروعاتٍ ضد بلدانهم الأصلية بحجة تحريرها من الشيوعية! وقد تناقشْتُ على مدى عقدين مع الأنثروبولوجي الراحل البارز، فؤاد إسحاق الخوري ـ وهو أرثوذكسي من «بينو» بعكّار، وكان أستاذاً للدراسات الأنثروبولوجية بالجامعة الأميركية ببيروت ـ بشأن مصائر الأديان التي ترتبط بالدولة؛ وكان رأيه أن أبرزها الإسلام السُنّي، والمسيحية الأرثوذكسية. ثم يتابع قائلاً: وما دامت الدولةُ التي تماهى الدينُ معها قد زالت، فإنّ الدين سيتعرضُ بالتدريج للزوال! وكانت وجهةُ نظري أنه باستثناء الزرادشتية لا أعرفُ ديناً زال بزوال الدولة التي ارتبطت به أو ارتبط بها. ومن جهةٍ أُخرى؛ فإنّ الأرثوذكسية لم يُحدثْها البيزنطيون أو الروس، كما أنّ الخلافة ما أحدثت أو أوجدتْ الإسلام، لكي يزولَ بزوالها. وأخيراً فإنّ الأرثوذكسية ارتبطت إلى حدٍ كبيرٍ ـ وليس بشكلٍ تام ـ بالهوية والانتماء (القومي والوطني والذاتي) للشعوب السلافية ولروسيا. والشيوعية بروسيا، أو العلمانية بتركيا، هما نظاما حُكْمٍ زمنيان، وسيتغيران أو يزولان، أمّا الدينُ المرتبط بالقناعات العميقة وبالوعي العامّ للجماعات فلا يزول، وإلاّ لزالت الكاثوليكية، التي كان الماريشال ستالين يتساءلُ: لماذا عليه أن يحترم بابا روما أو يُراعى جانبه، ما دام لا يملك مدفعيةً ولا دبّابات؟! لكنْ كانت لدى البروفسور خوري شواهدُهُ التي تُشير إلى حالة الضياع لدى الأرثوذكس قبل سقوط النظام الشيوعي: طبيعة الاتجاهات السائدة في أوساط الشباب، وعدم الإقبال على الكهنوت لدى الشبان الأرثوذكس والكاثوليك حتى في الدول غير الشيوعية. وأخيراً وليس آخِراً أنّ الأرثوذكس كانوا يعملون ضدَّ انتمائهم بشكلين: الاندفاع في الأحزاب الراديكالية المُعادية للدين والهوية الحقيقية والطبيعية، وأنّ البروتستانتية العالمية كانت هي التي تقود الأرثوذكس خارج الدول الشيوعية، وأحياناً بداخلها!

وعاد الدينُ قوياً وفاعلاً ومهيمناً وبمؤسسةٍ وبدون مؤسَّسة. وفي عملياتٍ زاخرةٍ سمّاها الباحث الفرنسي جيل كيبيل في كتابٍ له في الثمانينـات من القرن الماضي: «ثأر الله». وما انتظرت تلك العودةُ سقوط الاتحاد السوفياتي؛ بل إنها كانت بين أسباب سقوطه. فقد تزعمت الإنجيلية الأميركية الجديدة ( بقيادة رونالد ريغان ووصولاً إلى الرئيس بوش الابن) حملةً على الشيوعية باسم الإيمان والحرية، شارك فيه البروتستانت والكاثوليك والأصوليون المسلمون وبعض الأرثوذكس باليونان وصربيا والولايات المتحدة. وما أن تحطمت تماثيل لينين حتى عادت الأيقونات وصور القديس نقولا. لقد اندفعت الحياةُ في أَوصال الأرثوذكسية التي قيل إنها ماتت. وامتلأت الكنائس والكاتدرائيات بروسيا المقدسة من جديدٍ بالمصلّين الشباب. وبرزت في عمليات الإحياء مظاهر وطنيةٌ وقوميةٌ مزعجةٌ أحياناً في أصوليتها كما حدث في صربيا، وبعض مدن روسيا وبلغاريا، وكما يحدث من عقود في الإحياء الآخر، أعني الإحياء الإسلامي. بيد أنّ الأبرز فيما نحن بسبيله ما يمكنُ تسميتُه بسياسات الدين أو الأديان. فالكاتب الروسي الراحل سولجنتسين، اعتبر أنّ الأرثوذكسية مسؤولةٌ عن شِفاء روح روسيا المريضة التي أضنتها التوتاليتاريات الفوضوية والعدمية. والرئيس الروسي السابق، ورئيس الوزراء الحالي بوتين مضى على أثر يوحنا المعمدان والسيد المسيح للغطس والتطهُّر والتجدد بنهر الأردنّ! وما تزالُ هناك حساسياتٌ موروثةٌ ومستجدّةٌ تُجاه الاندفاعات الكاثوليكية والراديكاليات الإسلامية. لكنّ الكاثوليكية شريكٌ قريبٌ في أوروبا، والإسلام هو الدين الثاني بروسيا الاتحادية. وهذا يُفَسِّرُ ذلك التركيز على الخروج من المظلّة البروتستانتية، ومن الوعي البروتستانيت ومن الأوحدية الأميركية، والتفكير برسم استراتيجيات طويلة الأجل: تحسين العلاقات مع الدول الإسلامية بما فيها تركيا، واستعادة الروابط التاريخية مع الحلفاء الأوروبيين، وتزعُّم العالم الأرثوذكسي / السُّلافي، في حركته المتجددة لتصحيح التاريخ، بل ولتصحيح الجغرافيا إن أمكن!

قال إليكسي الثاني عام 2004 لوفدٍ من علماء المسلمين بينهم رجال دينٍ مسلمون من روسيا: أنتم تحدثونني عن الكارثة التي أنزلها الأميركيون بالعراق، وهي بالفعل كارثةٌ بكلّ المقاييس. وأنا أودُّ أن أُضيف لذلك ما نحسُّ به نحن المسيحيين الروس من التزامٍ دينيٍ وأخلاقيٍ تُجاه فلسطين، وتُجاه القدس. وإذا لم نُظهر تضامُناً والتزاماً تُجاه قضايا العدالة في العالم، وفي الشرق الأوسط، منبع الديانات، بالتحديد؛ فإنّ هاتين الكارثتين يمكن أن تتكررا في أيّ مكان!

إنها أرثوذكسيةٌ جديدةٌ، أو أنّ الغياب الأرثوذكسي الذي اعتدْناهُ، صار حضوراً لا يمكنُ تجاهُلُهُ أو تخطّيه.