في كل وادٍ أهيم

TT

في صغري أتذكر أننا ذهبنا في رحلة برية بواسطة سيارة كبيرة، كنا فيها نحن الأطفال محشورين مع الكبار، وعندما غابت الشمس نادوا علينا بالركوب للعودة، وفعلا عدنا وعندما وصلنا إلى المنزل اكتشفوا أن هناك طفلا معنا لم يكن موجوداً، ويبدو أنه من كثرة عددنا وصياحنا وشيطنتنا نسي الكبار إحصاءنا عند الذهاب وعند الإياب، فرجعوا على وجه السرعة إلى المكان ووجدوا ذلك الطفل غارقاً بدموعه من شدة البكاء والفزع.

وأذكر في هذه المناسبة أنني كنت (دائماً) أول من يركب السيارة وآخر من ينزل منها، ولا أدري إلى الآن هل ذلك ناتج من الحرص والذهانة، أم انه من عدم الثقة والخوف؟!

وفي إحدى الجرائد قرأت عن حادثة مشابهة ولكنها أكثر مأساوية.. جاء فيها: كانت عائلة تقوم برحلة برية، وأثناء جلوس أفراد العائلة لتناول طعامهم بعد صلاة العصر، وفيما هم منهمكون في أكلهم تسلل بين إبطي اثنين من الجالسين على الأكل، طفل عمره يقارب السنتين وأخذ يأكل معهم.

استغرب الجميع مَنْ يكون هذا الطفل الذي لا يعلمون من أين خرج عليهم، وأخذوا يتساءلون فيما بينهم: من أين أتى هذا الطفل، وأين أهله؟! والطفل منهمك بالأكل بشراهة.

عطفت عليه جدة العائلة وأخذت تلقمه اللقمة بعد اللقمة وتسقيه الماء، وراح أفراد العائلة يبحثون عن أهله هنا وهناك فلم يعثروا على أحد، فقال بعض أفراد العائلة لبعضهم: لعله جنّي في صورة طفل!!

وطلبوا من جدتهم تركه، إلاّ أن الجدة تمسكت به وأصرت على رعايته حتى يحضر له أحد قرب غروب الشمس، واستعدت العائلة للعودة للمنزل، فيما الطفل استغرق في نوم عميق بعدما أكل وشبع، فقالت الجدة: سوف نأخذه معنا، غير أن البقية رفضوا، بحجة أن أهله قد يأتون إليه، واستقر الرأي أخيراً على تغطيته اتقاء له من البرد، والذهاب إلى الشرطة لإبلاغهم عنه.

وهذا ما حصل، واستنفرت الشرطة دورية للمكان.

وظلوا طوال الليل يبحثون في الموقع، وتابعوا أثر الطفل الذي قادهم إلى منطقة بعيدة، وشاهدوا يا للهول سيارة منقلبة عدة قلبات، ومتحطمة تماماً، ووجدوا داخلها رجلا وامرأة ميتين وبدأ التفسخ في جثتيهما ـ هما والدا الطفل.

ويظهر أن الحادث حصل لهذه الأسرة قبل أيام، وأخذ العجب رجال الشرطة، كيف أن ذلك الطفل قد نجا من هذا الحادث المروع، وكيف خرج من السيارة بدون أن يصاب حتى بخدوش، وكيف تحمل الجوع والعطش وهام على وجهه وحيداً حتى وصل إلى تلك العائلة التي أنقذته بعد الله.

انتهت الحكاية، ولعل ذلك الطفل التائه اليتيم أصبح اليوم (مراهقاً).

والحمد لله أنني لم أضع ولا مرّة واحدة في صغري، ولكنني عندما كبرت تغير الحال تماماً، وأصبحت إن لم أضع رغماً عني، أتعمد الضياع عن سابق عمد وإصرار.. لهذا دائماً تجدونني في كل وادٍ أهيم، وأقول ما لا أفعل، ولا يتبعني أحد.

[email protected]