الرقصة الخاطفة

TT

أعرف زميلا من أيام الدراسة، وفرقت بيننا الأيام حيث ذهب للدراسة الجامعية في أمريكا، وهو من أسرة كريمة وملتزمة، لم يحبذ والده ابتعاثه للدراسة هناك، وبذل المستحيل لإقناع ابنه بإكمال دراسته في بلده متمنياً أن يلتحق بكلية الشريعة، غير أن ابنه المتحمس والراغب في الانطلاق رفض ذلك وأصر إصراراً كبيراً على السفر، وهدد أنه لو لم يتسن له ذلك فسوف ينقطع عن الدراسة نهائياً، ورضخ والده أخيراً، وسافر الابن والتحق بالجامعة هناك، وبعد عدة سنوات أنهى دراسته وعاد إلى وطنه.

الحكاية ليست هنا، ولكنها بدأت حينما جمعتني معه مناسبة تجاورت معه بالجلوس، ورحنا نتجاذب أطراف الحديث، وعرفت منه أن والده في أول سنة دراسية له هناك في أمريكا غضب منه غضباً شديداً وقاطعه حتى من الاتصال بالتليفونات.

وسألته متعجباً ومستفسراً من موقفه ذاك.

قال: أنت تعرف مدى تديُّن والدي وتمسُّكه بالأخلاق والعادات، وقد حدثته عن موضوع فثارت ثائرته، ووبخني وهددني قائلا: إذا فعلت ذلك فلا أنت ابني ولا أنا أبوك.

عدت أسأله: وما هو ذلك الموضوع الخطير الذي أوصل والدك إلى هذه الدرجة من الغضب؟!

قال: المسألة وما فيها يا سيدي أن هناك مادة (اختيارية) في الجامعة لا بد أن نتعلمها ونختبر وننجح فيها، وإلاّ لن تكتمل دراستنا، والواقع أن تلك المادة هي (هواية) أكثر من كونها تعليماً نظرياً، فلك الحق أن تختار المجال الرياضي، أو الاجتماعي، أو الفني بجميع مجالاته، ولقد اخترت أنا مجال (تعلم الرقص)، وما أن اتصلت بوالدي وذكرت له ذلك حتى حصل ما حصل.

وكررت السؤال: ولماذا اخترت الرقص بالذات؟!

قال: كنت شغوفاً بتعلم ما كنت محروماً منه، ولم أجد أمتع من هذا المجال.

قلت له: هذا شيء لطيف، هل ممكن أن تقف وترقص أمامي قليلا لأشاهد ما تعلمته هناك، لكي أقارن بين مستواك ومستواي المتدني في هذه الناحية؟!

قال: إن المجال غير ملائم، خصوصاً وأنت تشاهد الحاضرين يتنافسون فيما بينهم بالأمور الجادة، وليس هناك أي موسيقى، فماذا سيقولون عني لو رأوني وأنا أرقص أمامك فجأة؟!

قلت له: معك حق، ولكن ما هي الرقصات التي تعلمتها؟!

قال: عد واغلط، بدأها أستاذنا بالرقصة الكلاسيكية المسماة بـ«الفالس»، مرورا بالـ«سامبا»، والـ«تشاتشا»، والـ«تانغو»، والـ«بالباو»، والـ«رومبا» وهذه الأخيرة هي نوع من التبختر و(الحنجلة)، وانتهاء بالـ«بوكي ست»، والـ«روك آند رول»، والرقصات الحديثة المنفصلة، وتخصصت أنا في النهاية برقصة تسمى (الرقصة الخاطفة)، وهي رقصة يميل فيها الإنسان على الجانبين قليلا ثم يطرح إحدى قدميه فوق الأخرى، ثم وبقفزة واحدة يدور حول نفسه وأعطافه تهتز.

نسيت أن أقول لكم إن ذلك الزميل عاد من أمريكا طبيباً متخصصاً في علم الأجنّة.

وسألته آخر سؤال: هل يتسنى لك أن تمارس الرقص الآن؟!

قال: أحياناً أفعل ذلك في عيادتي، عندما أكون وحيداً.

والآن أرجو أن لا يتضايق زميلي الدكتور عندما ذكرت ذلك عنه، وعزائي أنني لم أورد الاسم، ثم إن الرقص جميل، وهو كذلك مفيد قبل الأكل وبعده.

[email protected]