وكانت بداية العلاقة السعودية الأمريكية: نفطا واقتصادا

TT

إنه ذو مكانة متقدمة، ومساحة واسعة وإيقاع حي دائم في حياة البشر.. ما هو؟.. انه (العامل أو الدافع الاقتصادي) وهذا شيء طبعي بدهي تلقائي، إذ لا يحيا الانسان بدون خبز (والخبز رمز لكل ما يقيت الانسان ويغذيه). ولذا نجد النقيضين ـ الرأسمالية والشيوعية ـ يلتقيان في الاقتناع الراسخ بأهمية الاقتصاد في حياة الناس: كل من منظوره الفلسفي.. وكارل ماركس لم يكن مخطئا ـ في هذا الجانب ـ حين قرر ان الاقتصاد دافع او محرك رئيس للسلوك الانساني، ولكنه أخطأ بل انحرف حين حصر سلوك الناس وسعيهم في الدافع الاقتصادي وحده، وهو حصر مفتعل: لا يقتضيه عقل ولا واقع ولا مصلحة.

ان هذه المفاهيم البشرية المتحدة على الاعتراف بقيمة وقوة (الدافع الاقتصادي) لدى الناس: تتضاءل حين يتحدث الله عز وجل (خالق الانسان والعليم الخبير بحاجاته) عن (المقومات الاقتصادية والمادية) للانسان وأهميتها العظمى الحاسمة في حياة البشر: فرادى ومجتمعات. فقبل ان يتحدث القرآن المجيد (كلمة الله ووحيه) عن خلافة الانسان في الأرض: «إني جاعل في الأرض خليفة». قبل ذلك ـ مباشرة ـ تحدث القرآن عن (المقومات المادية والاقتصادية) للوجود الانساني وخلافته في الأرض: «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا».. وهل الاقتصاد والمعايش إلا ثمرة لما في الأرض جميعا؟.. وهذه الآية الأصل المدنية: بسطت مضامينها ومفاهيهما في وقت مبكر في (القرآن المكي).. ففي سور المدثر والمزمل والقلم مثلا (وهي من أوائل السور في ترتيب النزول) نلتقي بآيات بينات تُعنى بهموم الناس ومشكلاتهم المعاشية والاقتصادية في سورة المزمل نقرأ: «وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله».. وفي سورة المدثر نقرأ: «ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين». وفي سورة القلم نقرأ قصة أصحاب الجنة الذين كانوا في سعة من العيش والرغد. ثم بيتوا النية على حرمان المساكين من حقوقهم: «ألا يدخلنَّها اليوم عليكم مسكين». فكانت النتيجة تلف بساتينهم ودمارها.. ومن أبرز صور اكتراث المنهج القرآني بقضية الاقتصاد: انه ربط الايمان بالدار الآخرة بـ (العدالة الاقتصادية في الأسواق التجارية)، عدالة ينتفي فيها الظلم والبخس والتطفيف:«ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون. ليوم عظيم. يوم يقوم الناس لرب العالمين».

في ضوء هذه الحقائق والوقائع: من الطبعي، ومن العقل والحق والواقع: ان يكون الاقتصاد (أولوية مبدئية ووظيفية) في العلاقة بين الأمم أو الدول.

من هنا، غمرنا سرور مبهج بتعليق نابه لماح على مقال الأسبوع الماضي (مفهوم العلاقة بأمريكا في ظل المتغيرات: السعودية نموذجا)، وهو تعليق صدر من سياسي سعودي مخضرم محنك ممسك بملف تاريخ المملكة العربية السعودية بعامة، وبملف تاريخ الملك عبد العزيز بخاصة (فهو أحد أولاده الكبار الأيقاظ).. والقراء ليسوا في حاجة الى ذكر اسمه مباشرة فهم يعرفونه جيدا بهذه الصفات والخصائص التي اصبحت (علما) عليه.. هذا السياسي المخضرم (وهو الأمير سلمان بن عبد العزيز لمن حرص على التسمية) أضاف ـ في تعليقه ـ محورين مهمين جدا للقضية التي تناولها مقال الأسبوع الماضي: قضية العلاقة السعودية الأمريكية في ظل الثوابت والمتغيرات.. وهذان المحوران هما عماد هذا المقال الماثل، وقوامه ومضمونه.

أ ـ محور: ان البداية المبكرة للعلاقة السعودية الأمريكية كانت (اقتصادية) في المقام الأول.

ب ـ ومحور عبقرية الملك عبد العزيز في (التعامل مع أمريكا) ـ بوجه خاص ـ في هذا المجال الحيوي (النفط)، وما هي فلسفة هذا التعامل بالذات؟

أولا: قال السياسي المخضرم: إن الاقتصاد كان هو القاعدة الأولى الصلبة في العلاقة السعودية الأمريكية، وان هذه العلاقة سبقت لقاء الملك عبد العزيز بالرئيس فرانكلين روزفلت عام 1945.. وهذا صحيح 100%، فقد بدأت العلاقة السعودية الأمريكية ـ في مجال الاقتصاد ـ في مطالع الثلاثينات من القرن العشرين، حيث جرى التوقيع المتبادل على اتفاقية نفطية استثمارية بين السعودية وبين شركات أمريكية أربع هي ستاندرد أوبل أوف كاليفورنيا.. وشركة تكساس.. وشركة ستاندرد نيوجرسي.. وشركة سوكوني فاكوم. ولقد نُحِتَ اسم جامع يرمز الى الأطراف الموقعة على الاتفاقية، وكان هذا الاسم هو (أرامكو). وبموجب هذا التعاقد: بوشر الحفر والتنقيب الذي ظهر من خلاله النفط بتواضع في البداية ثم تدفق بكميات تجارية ضخمة من بعد.. نعم. بدا التعاون السعودي الأمريكي في التنقيب عن هذه المادة الحيوية في سبتمبر عام 1933 في الدمام ـ بادئ ذي بدء ـ أي في نهاية عهد الرئيس الأمريكي هربرت هوفر، ومع بدايات عهد الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت (1933 ـ 1945).. ويمكن تكييف هذا التعاون الجريء الكبير بأنه (تناغم الحاجات الاقتصادية) بين البلدين. فالملك عبد العزيز كان مستغرقا بكليته في عملية بناء وطني في كل شيء. وهو الذي قال: «إنني أرى أن من واجبي ترقية جزيرة العرب والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة مع الاعتصام بحبل الدين الاسلامي الحنيف».. وهذه الترقية، والأخذ بأسباب التقدم. وهذا البناء الوطني ـ الأفقي والرأسي في آن ـ كان من المتعذر تحقيقه بدون أموال جزيلة تجري في عروق النهضة الكبرى وتمدها بالحياة والعافية والاستمرار.. وانما تأتي الأموال من النفط في هذه الحال. ولذا كانت السعودية في حاجة الى زبائن كبار مقتدرين) يشترون نفطها، وليس ثمة زبون أكبر ولا أغنى من أمريكا.. هذه الحاجات السعودية الملحة والتي لا تحتمل التأجيل: التقت ـ موضوعا وتوقيتا ـ مع الحاجات الامريكية الشديدة الالحاح أيضا. فعندما استلم الرئيس الأمريكي روزفلت مقاليد الحكم عام 1933 كانت بلاده مصدومة ـ حتى النخاع ـ بالأزمة المالية الاقتصادية الطاحنة التي تفجرت عام 1929. وكانت الأولوية المطلقة أمام روزفلت ـ من ثم ـ هي: خطة انقاذ اقتصادية قومية تخرج أمريكا من الافلاس والكساد والركود، وتعيد للامريكيين مقومات حياتهم وثقتهم باقتصادهم وبلادهم.. وكان روزفلت يدرك ذلك بعمق. فقد قال يومها: «انه لشيء جديد على الحياة الامريكية: التفكير في علاقة الحكومة بشعبها الجائع. ومواطنيها العاطلين عن العمل، واتخاذ الخطوات اللازمة لكي تقوم الحكومات بواجباتها تجاه الشعب». ولقد نهض روزفلت بما سمي في الفكر الاقتصادي السياسي الامريكي (ثورة روزفلت الاقتصادية). وكان عماد هذه الثورة أو الاستراتيجية هو: التوسع في الانتاج الصناعي من أجل الانغماس في حركة تصدير طموحة.. وفتح شهية رأس المال للاستثمار الواثق في هذا الميدان.. ثم اعادة الطاقة البشرية المتبطلة: إلى العمل. بيد ان هذه الخطة كانت محتاجة الى (النفط السعودي) الذي يمثل (الزاد الضروري لحركة التصنيع الموسعة.. وقد يقال: وأين كان النفط الأمريكي؟.. والجواب هو: ان امريكا تعرضت الى (نقص استراتيجي) مروع في احتياطيها الذي كانت تستنزفه الحرب العالمية الثانية بسرعة مجنونة. ومن هنا اعلنت الحكومة الامريكية عزمها على الاستثمار في النفط السعودي فقالت يومها ـ وبوضوح ـ: «ان استثمار موارد البترول السعودي يجب أن ينظر اليه في ضوء المصلحة الوطنية الامريكية».

ثانيا: المحور الثاني الذي أضافه السياسي السعودي المخضرم هو: ان الملك عبد العزيز فضل أن تكون علاقته الأقوى والأوثق مع الولايات المتحدة الامريكية، وليس مع بريطانيا التي كانت ـ يومئذ ـ ملء السمع والبصر على مدى الكرة الأرضية تقريبا.. والفلسفة السياسية الحضارية وراء هذا الاختيار هو: ان بريطانيا قد تقبحت صورتها في العالم بسبب استعمارها للأمم والشعوب، ونهب خيراتها، وإذلال ابنائها، على حين كانت الولايات المتحدة ـ يومذاك ـ ذات صورة مشرقة أو متقبلة في العالم العربي الاسلامي، وكانت ـ في الوقت نفسه ـ دولة صاعدة واعدة، فأمريكا لم يسبق أن استعمرت بلدا عربيا أو مسلما، بل كانت مساندة لحركات الاستقلال في العالم كله: في هذه الصورة أو تلك، وهي مساندة تعبر بها عن وفائها لتاريخها النضالي الاستقلالي، فهي أول شعب يستقل ويتحرر من قبضة التاج أو الاستعمار البريطاني. وهو تحرر صيغ في وثيقة تعد من مفاخر الشعب الامريكي وهي (وثيقة الاستقلال).. وكان الملك عبد العزيز على علم مكين بهذه الاتجاهات الامريكية الحسنة وكان يصف الأمة الامريكية بأنها «أمة حرة تتمسك بأعرق التقاليد الديمقراطية المؤسسة على تأييد الحق والعدل ونصرة الأمم المغلوبة».

وعلى هاتين الركيزتين العقلانيتين الواقعيتين: أقام الملك عبد العزيز علاقة بلاده بالولايات المتحدة الامريكية، وهي علاقة مرشحة للاستمرار في المستقبل على ذات الركيزتين: أما النفط فقد ازداد أهمية.. وأما صورة أمريكا فقد اهتزت بسبب افعال امريكية سيئة، ولكنها صورة قابلة للاصلاح من خلال أفعال جديدة جميلة: تكون فرصة للتعاون الوثيق في هذا المجال.. فمن مصلحة السعودية أن تكون صورة أمريكا الراهنة جميلة أو متقبلة.