«هو إحنا ناقصين»؟

TT

صورتها التي نشرتها الصحف محتشمة ومحترمة.

همايرا عابدين جاءت الى لندن من بنغلاديش في سن المرحلة الابتدائية قبل عقدين.. حصلت العام الماضي على بكالوريوس الطب والجراحة، وتبقى لها اربعة اشهر من سنة الامتياز (التدريب العملي مع الاطباء الاكثر خبرة) لتحصل على زمالة كلية الممارسين العموميين الملكية وتلتحق ـ كما تحلم ـ بإحدى عيادات الممارسات العامة (المجانية التابعة لوزارة الصحة) خاصة في شرق لندن لتساعد الفقراء من ابناء جلدتها حيث يعيشون مع بقية الفقراء والمهاجرين.

المجتمع الذي انفق على تعليمها وتدريبها (قرابة 280 الف جنيه، اي 413 الف دولار) وبالتالي تحرص سياسة وزارة الصحة ان يخدم الاطباء في كل مناطق المملكة خاصة تلك التي تعاني مشكلة خلل التوازن بين نسبة الاطباء المدربين لعدد السكان، كأحياء شرق لندن المزدحمة بالمهاجرين حيث ترتفع البطالة بعد اغلاق ارصفة تفريغ السفن من شاطئ التيمز في العقود الاخيرة.

إكمال همايرا تدريبها العملي ليس فقط اولوية شخصية لطموحها كطبيبة، بل احد اهم الاولويات الصحية لعيادات حي فقير لا يتحدث المهاجرون فيه الانجليزية بالمستوى المطلوب. فالى جانب الانحليزية، تتحدث همايرا البنغالية والاوردو والهندي. المريضات المسلمات، إما طواعية (بسبب خزعبلات إمام مسجد محلي جاهل بالانجليزية، وبالعربية لغة القرآن) او بضغوط الأزواج، لا يعرضن انفسهن على أطباء رجال فتتفاقم حالات بعضهن الى حد خطير، كما هو مسجل رسميا، بسبب نقص عدد الطبيبات كهمايرا حيث يقنع وجودهن الازواج بمعالجة نسائهن .

همايرا، ساعة كتابة هذه السطور، «اسيرة» عائلتها في العاصمة البنغلاديشية داكا منذ اربعة اشهر.

اثناء زيارة همايرا للاسرة في داكا في فبراير فوجئت بقرار أمها البيجوم صوفيا كمال، وخالها ابو بكر، تزويجها من «عريس» مجهول لها. وتجنبا «للزن» اليومي على دماغها، أخذت الاسرة «على قد عقلها» وقبلت الخطوبة مؤقتا، ثم عادت الى لندن بأمل ان ينسى العريس ـ «الغفلة» الموعود (الذي لم تقابله او تراه وقتها) الامر، اذ تشير الاحتملات الاحصائية (في عقل طبيبة انجليزية التعليم) انه غالبا ما سيقابل فتاة تفوقها جاذبية فيقع في حبها كحال الملايين من خلق الله.

فوجئت همايرا ، في شهر مايو، بوصول امها والخال ابو بكر مباشرة من مطار هيثرو وحبساها داخل منزلها المسجل باسمها في الشهر العقاري البريطاني، وخيّراها بين الزواج من «عريس الغفلة» الخفي او تبرُّؤ الاسرة منها ودعوة امها عليها «باللعنة ككافرة ستحرق في نار جهنم وبئس المصير».

استنجدت الدكتورة هاتفيا بمحاميتها آن ـ ماري هتشينسون التي حررت في مركز البوليس محضرا ضد الأم والخال واستصدرت حكما قضائيا court injunction بعدم تعرض الاثنين لها، فعادا لداكا بخفي حنين.

تلقت همايرا في اغسطس رسالة بان امها تحتضر، فاستقلت اول طائرة الى داكا بتذكرة عودة 48 ساعة، فوقعت في كمين نصبته العائلة، لا تزال اسيرته بينما فشلت المفوضية البريطانية العليا في الاتصال بها .

المفارقة ان قانون تحريم الزواج بالاكراه، او دون السن القانوني (المنتشر بين المهاجرين المسلمين من شبه القارة الهندية) دخل حيز التنفيذ في بريطانيا منذ ثلاث اسابيع فقط بعد ان ناقشه مجلسا العموم واللوردات لعامين.

واستصدرت المحامية هتشينسون حكما «فوري التنفيذ» من المحكمة العليا في لندن 5 ديسمبر، بإعادة موكلتها سالمة الى دارها القانونية (اي عنوانها في لندن) وتحميل اسرتها مسؤولية سلامتها.

محامي المفوضية البريطانية «دق صورة الحكم بالمسامير» امام الشهود على باب الاسرة في داكا بعد رفضها تسلم الحكم. (تنفيذ بوليس داكا الحكم اختياريا لا الزاميا حسب برتوكول دول الكومونولث).

المفارقة ان قانون منع الزواج بالاكراه، او دون سن الرشد، جاري المفعول في بنغلاديش قبل بريطانيا بعامين.

همايرا محتجزة في منزل الاسرة ضد ارادتها حسب قول محاميتها في داكا سارة حسين ولديها دليلان.. الاول شهادة الدكتورة شيبرا نشاوردي، ابنة خالة همايرا التي تحادثت معها تليفونيا «قبل ان ينتزع التليفون من يدها وينقطع الخط».

ورسالة «ايميل» مقتضبة تقول انها «زهقت من الحياة ولم يبق ما تتطلع للعيش من اجله» تلقاها طبيب انجليزي زميل، كان شك الاسرة في وجود علاقة غرامية بينه وبين هميرا وراء قرار تزويجها «بالعافية» من مجهول.

المحامية المدام حسين سجلت لدى محامي المفوضية البريطانية تمكنها من الاتصال تليفونيا بموكلتها، فاقتصرت اجاباتها على كلمتي «نعم» او «لا»، قبل ان تنتزع الام التليفون .

الاسرة ترفض تنفيذ اربعة احكام من محاكم بنغلاديشية بالسماح لهمايرا بالتشاور مع محاميتها على انفراد.

وفي المقابل، استأجر ابوها، محمد جوينال عابدين، محاميا رفع قضية حجر على تصرفات همايرا مدعيا اضطرابها عقليا.

محامية هاميرا تخشى استغلال الاسرة، عطلة محاكم بنغلاديش (بمناسبة عيد الاضحى) حتى غدا (الاحد) لتجبرها على الزواج من مجهول.

ولا ادعي معرفتي بتقاليد الزواج البنغالية، لكن منطقيا لا يتمم المأذون (او المقابل له في داكا) عقد القران دون التأكد من موافقة العروس بسؤالها مباشرة.

في التقاليد التي تعزل العروس عن مجلس الرجال، يتأكد المأذون بواسطة رجلين (لا ادري سبب استبعاد الإناث) يسألان العروس عمن توكل لينفذ ارادتها (لا اعرف سبب استبعاد النساء من هذه المرحلة ايضا) ليصافح بدوره العريس ويتلوان معاً الآيات القرآنية ويسجل المأذون العقد.

الادلة المتوفرة تشير الى رفض همايرا الزواج من مجهول، فهل سيكذب المأذون او الوكيل ؟

هذه جريمة تزوير في القانون البنغالي.

وهل يمكن للمحاكم في داكا إلغاء الزواج لبطلانه أصلا بسبب التزوير؟

(وستتبعها لمحاكم البريطانية في ذلك).. وماذا اذا استأنف الزوج الحكم؟

وقد يتحول الامر لأزمة قومية اذا تدخلت المؤسة الدينية «بفتوى» ضد القضاة والمحامين.

وماذا يحدث اذا حملت هاميرا من «العريس المجهول» ثم صدر حكم بطلاق إجباري؟

واقعة اغرب من الخيال تشوه الصور الايجابية للإسلام التي انفقت الحكومة البريطانية الملايين على وضعها في العقول والقلوب.

الخلل يكمن في خلط الدين بالعادات الاجتماعية (وهي موروثات ابتكرتها الطبقات المسيطرة اقتصاديا لإحكام قبضتها على المجتمع وفرضتها كتقاليد يعتبر المساس بها كفرا)، رغم ان الدين هو تعاقد اختياري بين الانسان وربه.

ودون تنشيط الفقهاء والمؤسسات ذات الوزن اللاهوتي التاريخي (كالأزهر ومرجعية النجف مثلا)، للفصل بين تقاليد احيانا ما تشبه المهازل المخجلة، وبين الدين، بتطوير الفكر الاسلامي استنادا الى أسسه البسيطة كعلاقة مباشرة بين الفرد وربه (لا كهنوت في الاسلام)، فستظل الصحافة العالمية معرضة للغرق في موجات مهازل تؤكد الانطباع السلبي الموجود عن الاسلام.

المهزلة المأسووية التي راحت ضحيتها الدكتورة همايرا، لخصها سفير بلد اسلامي مستنكرا «هو إحنا ناقصين يا عالم؟».