لبنان بين استراتيجيتين دفاعيتين مستحيلتين

TT

لم يعترض أحد في لبنان على زيارة رئيس الجمهورية اللبنانية لطهران، على الرغم من وجود اكثرية نيابية وشعبية تعتبر ايران بسبب اتخاذها من لبنان عبر حزب الله، رأس جسر عسكري في صراعها مع الولايات المتحدة عاملا من اهم عوامل القلق المصيري. كما لم يعترض أحد من الفريق السياسي الآخر، على زياراته للعواصم العربية والغربية، التي يعتبرها هذا الفريق «عدوة» له، فالرئيس سليمان في حرصه على تركيز علاقات لبنان بكل الدول الكبيرة والشقيقة والصديقة، كان لا بد له من زيارة طهران، بعد العواصم الاخرى، نظرا للوزن المؤثر لها في السياسة اللبنانية.

أما عرض ايران تسليح الجيش اللبناني، فتلك مسألة اخرى تتعلق باستراتيجية الدفاع اللبنانية التي تشكل البند الرئيسي ـ وربما الوحيد ـ على طاولة الحوار. والتي لا ينتظر أحد اتفاق الزعماء اللبنانيين عليها، قريبا. لا قبل الانتخابات النيابية، ولا بعدها.

ولكن من قبيل «البحث عن الظهر عند الساعة الرابعة عشرة»، تساءل البعض عن نوعية الأسلحة التي يمكن ان تقدمها ايران للجيش اللبناني (ليستغني عن اسلحة اميركية أو فرنسية أو مصرية، معروضة عليه)؟ هل هي صواريخ كتلك التي اعطتها لحزب الله؟ أم هي دبابات ومدافع وطائرات؟ أم هي سيارات نقل ورشاشات وذخائر؟ هل هي اسلحة لصد هجوم اسرائيلي جوي او ارضي عليه؟ ام هي اسلحة تساعده في مهمته الثانية، أي بسط سلطة الدولة على كل اراضيها؟ أو حفظ الامن الداخلي من خطر الارهاب؟ واي ارهاب؟ الذي يهدد، حاليا، الامن والسلامة العامة؟ أم الذي يهدد النظام الديمقراطي، على المدى البعيد؟ فبدون تحديد واضح للأخطار التي تهدد لبنان، يتفق عليه جميع اللبنانيين، او اكثريتهم الكبيرة، على الاقل، لا يمكن رسم اي استراتيجية دفاعية عنه.

لكل دولة الحق في ان تستفيد من كل فرصة دولية سانحة او مؤاتية لها اقليميا ودوليا. والوجود الشيعي العريق في لبنان، والذي نهض مع الامام موسى الصدر، وتوثب بعد قيام الثورة الخمينية، وباتت له قواته المسلحة والمدربة عبر حزب الله، وفر لإيران فرصة مد نفوذها، الى شواطئ المتوسط، واعطاها امكانية «نكرزة» اسرائيل والولايات المتحدة، وغيرهما، مباشرة، بعد تبنيها للقضية الفلسطينية. وليس من السهل او الممكن لإيران في ظل الحكم الراهن فيها، ان تتراجع عن استراتيجيتها هذه، المعلنة العداء لأسرائيل وللغرب.

من هنا، لا نرى كيف سيتخلى حزب الله عن سلاحه، أو كيف سيقبل جهازه العسكري الانضواء تحت لواء الدولة اللبنانية، حتى لو سلحت ايران جيشها. أو التحول الى حزب سياسي «مدني» لبناني، لا علاقة له بولاية الفقيه أو بالحرس الثوري الايراني. كما لا نرى ايران جادة في تسليح الجيش اللبناني بما يمكنه الصمود في وجه اسرائيل، الا اذا كانت الغاية النهائية، هي دمج المقاومة الاسلامية الشيعية بالجيش اللبناني ـ او العكس ـ في حال وصول حلفائها الى الحكم في لبنان، يوما ما. كما هو عليه الامر في النظام الايراني.

كما اننا لا نرى أي مصلحة للبنان في التخلي عن دعم الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، ومعظم الدول العربية، وفي مقدمها السعودية ومصر، لاستقلاله وسيادته، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، والالتحاق بالمحور الإيراني ـ السوري، الذي لا يخفي استراتيجته الهادفة الى جعل لبنان ورقة سياسية في يده أو رهينة أو ساحة القتال الوحيدة في مواجهة إسرائيل والغرب. فهناك فرق كبير بين تسليح خارجي غايته تعزيز قوة الدولة اللبنانية وقدرتها على حماية نفسها داخليا وخارجيا، وبين تسليح غايته تهديد اسرائيل..

والسؤال الحقيقي المطروح في لبنان، اليوم، هو: هل يستطيع الحكم اللبناني ان يلتزم، موقفا حياديا بين المحورين المتجاذبين لمصيره في الشرق الأوسط؟ وهل فوز 14 آذار أو 8 آذار في الانتخابات القادمة، سوف يدفع بلبنان، الى أحضان أحد المحورين؟ أم أن «صيغة وفاقية» للحكم، منبثقة عن «مؤتمر دوحة» ثان، سوف تنقذه، مرة اخرى، من الاختيار الصريح، وبالتالي من ازمة وطنية ـ سياسية جديدة؟

ان مشكلة السلاح والتسلح واختيار المصير، تبدو، اليوم، في لبنان، أمام افق مسدود. ولكنها ليست بمشكلة ملحة نظرا لمرور العالم والمنطقة بمرحلة انتظار اتجاهات السياسة الاميركية الجديدة في الشرق الاوسط ونتائج الانتخابات الاسرائيلية ومحادثات السلام بين اسرائيل والفلسطينيين وسوريا، واستقرار الأوضاع الاقتصادية والمالية التي فجرتها الازمة المالية العالمية الاخيرة. اما المشكلة الملحة في لبنان فهي الاقتصادية. فلقد نسي اللبنانيون، أو بالاحرى السياسيون والزعماء، ان لبنان يرزخ تحت دين عام ضخم. وان المطالب الاجتماعية سوف تزيد من ضخامة هذا الدين. وان الأزمة

المالية العالمية، مع تدني أسعار النفط، التي وصلت تداعياتها الى الخليج سوف تعيد عشرات الألوف من الشبان اللبنانيين العاملين هناك، الى ديارهم. وبالتالي سوف تخفف من مداخيل لبنان الخارجية، وتزيد من نسبة البطالة فيه.

انه من المؤسف والمحزن، ان يتلهى رجال السياسة بالاتهامات المتبادلة وبالجدل حول افضل السبل لمقاومة عدوان اسرائيل.. في الوقت الذي تخيم الازمة الحقيقية، اي الاقتصادية ـ الاجتماعية، بظلها على حياة كل اللبنانيين. فبدلا من ان تدفع هذه الازمة الجميع الى التكاتف وتوحيد الجهود والمواقف المساعدة على حلها، نرى السياسيين يتخذونها ذريعة لتهشيم بعضهم البعض.

حقا، يصعب على اصدقاء لبنان ومحبيه والمعجبين بالذكاء اللبناني.. تفسير أو تبرير غياب هذا الذكاء عند بعض السياسيين، أمام الاستحقاقات المصيرية الحقيقية، والقريبة.