الأصولية تنمو في إسرائيل وتهدد الجميع

TT

تنشغل أحزاب إسرائيل الآن، في إعداد نفسها للانتخابات العامة التي ستجري في مطلع شهر شباط/فبراير القادم. المتنافسان الرئيسيان في هذه الانتخابات هما: تسيبي ليفني رئيسة حزب كاديما، وبنيامين نتنياهو رئيس حزب الليكود. ويليهما ايهود باراك رئيس حزب العمل، حيث يتوقع الكثيرون أن يكون الفائز بالأكثرية هو نتنياهو، وأن يكون بذلك رئيس الوزراء المقبل. السمة الأساسية في هذه الانتخابات هي التطرف، التطرف باتجاه اليمين والأصولية. وبالانطلاق من هذه النقطة، يمكن تقسيم تاريخ إسرائيل السياسي إلى ثلاث مراحل: مرحلة سيطرة حزب العمل ذي النزعة «اليسارية» على الحكم في إسرائيل، وهو الحزب المؤسس لإسرائيل بزعامة بن غوريون منذ العام 1948. ثم مرحلة سيطرة حزب الليكود اليميني منذ العام 1977 بزعامة مناحم بيغن، الذي كان يوصف بالإرهابي بسبب المجازر التي ارتكبها ضد الفلسطينيين، وأبرزها في الذاكرة مجزرة دير ياسين، وكذلك بسبب ولائه لمنهج الزعيم الصهيوني حابوتنسكي الذي جعل من العنف والتطرف أساسا لمنهجه. وظلت الحياة السياسية في إسرائيل، ولسنوات طويلة، تنوس بين هذين القطبين، ولأسباب موضوعية، فحزب العمل هو مؤسس الدولة، وحزب الليكود صعد بعد فشل إسرائيل بقيادة حزب العمل في حرب العام 1973.

وجد دائما بين هذين القطبين، تيار يميني متطرف، يستند إلى مفاهيم دينية أصولية، بعيدة عن الصهيونية أحيانا، وبعيدة عن المنطق السياسي أحيانا أخرى. وقد لقيت هذه التيارات المتطرفة دعما غير علني من التيارين الأساسيين، وتركز الدعم بشكل خاص حول موضوع الاستيطان، الذي جعلت منه هذه القوى الأصولية قضيتها الرئيسية. فالمؤسس الرئيسي للاستيطان هو حزب العمل، والداعم الرئيس للاستيطان هو حزب الليكود، سواء بطبعته الأساسية الممثلة بمناحم بيغن، أو بطبعته العدوانية الشرسة ممثلة بآرييل شارون، أو بطبعته الرديئة الأخيرة ممثلة بايهود اولمرت، قبل أن يعلن توبته التاريخية، ويدعو إلى الاعتراف بحقوق الفلسطينيين.

حرص التيار الديني المتطرف (الأصولي)، أن يعمل دائما تحت جناح السلطة، وتحت جناح الدولة. ولكن التطرف قاده أحيانا إلى العمل خارجها أو ضدها. حدث ذلك في السابق من قبل حركة (غوش أمونيم) التي وجدت في مطلع السبعينات، وكانت البذرة التنظيمية الأولى للتيار الأصولي، وهي التي بنت مستوطنة كريات أربع قرب الخليل، وهي التي بدأت الاستيطان داخل مدينة الخليل، وهي التي خرج من أحشائها أول تنظيم إرهابي (اغتيال رؤساء البلديات الفلسطينيين). وها هو الشيء نفسه يحدث الآن في المواجهات بين المستوطنين وقوات الأمن الإسرائيلية في مدينة الخليل نفسها، وعبر التصدي المخطط على المواطنين الفلسطينيين.

والملاحظة المهمة الثانية في هذا السياق، أن التيار الديني (الأصولي)، كان في السابق، ولسنوات طويلة، «ظاهرة» في السياسة الإسرائيلية، يستطيع الحزبان الأساسيان التعامل معها وضبطها. أما الآن، وربما عبر السنوات العشر الأخيرة، فقد خرج اليمين الأصولي الإسرائيلي من دائرة «الظاهرة» إلى دائرة الحقيقة السياسية، وهو يطمح لأن ينافس الآن على موقع الزعامة، أو على موقع الأغلبية، وعلى موقع بيضة القبان في أسوأ الظروف.

والملاحظة المهمة الثالثة في هذا السياق، أن اليمين الأصولي هذا، لديه ميل مخطط ومبرمج لاستعمال العنف، ولاستعمال العنف في الاتجاهات المختلفة، ضد الفلسطينيين، وضد الإسرائيليين المعارضين له، وضد الدولة الإسرائيلية نفسها.

تم بحث هذه القضية في 12/11/2008 في الاجتماع الأسبوعي للحكومة الإسرائيلية، حيث قام يوفال ديسكين رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) بتحذير الحكومة من احتمال اندلاع مواجهات واسعة بين المستوطنين وقوات الأمن الإسرائيلية. وقد حدث ذلك فعلا في الخليل بعد شهر واحد.

وقال ديسكن في اجتماع الحكومة إن «تحقيقات أجريناها أظهرت وجود استعداد بمستوى عال جدا لدى الجمهور (الأصولي) لاستخدام العنف.. من أجل منع أو وقف خطة سياسية كهذه أو تلك». وقال أيضا انهم سيحاولون تشويش عمل قوات الأمن من أجل إفشال ضبط القانون، وحذر من أن نشاطهم سيمتد إلى داخل الخط الأخضر، أي من الضفة الغربية إلى داخل إسرائيل.

إن هذا التقييم الذي قدمه رئيس الأمن العام الإسرائيلي لحكومته، هو تحذير أولي من اندلاع حرب أهلية. حرب أهلية تضرب في اتجاهات متعددة: تضرب في اتجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتضرب في اتجاه الفلسطينيين داخل دولة إسرائيل (أحداث عكا). وتضرب في اتجاه الصدام مع قوى الأمن الإسرائيلية، كما حدث في الخليل مؤخرا. وتضرب في اتجاه الإسرائيليين المعارضين لرأي الأصوليين، وكما حدث فعليا يوم 25/9/2008، حيث تعرض المؤرخ الإسرائيلي اليساري البروفيسور (زئيف شطيرنهيل) لمحاولة اغتيال بسبب أفكاره. وقال هذا المؤرخ بعد ذلك «في حال أن من قام بهذا العمل يمثل تيارا سياسيا أو شعبيا، فإن هذه ستكون بداية انحلال الديمقراطية الإسرائيلية».

وقد سبق لرئيس الشاباك أن قال للحكومة الإسرائيلية حول موضوع الاغتيالات ما يلي «المسافة بين اعتداء على أفراد شرطة أو جنود، واستخدام السلاح ضد زعيم سياسي.. أقصر مما قد يتخيل المرء». ولا بد من التذكير هنا بحادث اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين عام 1996، والذي عولج كحادث فردي، ولم يحظ بالاهتمام الكافي من المؤسسات الإسرائيلية.

وتتحدث معلومات الشرطة الإسرائيلية عن تنظيم يهودي يميني متطرف، يدعى (جيش التحرير الرسمي)، هو الذي يقف وراء محاولة اغتيال المؤرخ، وأن هذا التنظيم يعتزم المس بشخصيات يسارية أخرى.

إزاء هذه المؤشرات كلها، ليس من المبالغة القول، بأن إسرائيل تعيش على مفترق طرق، وأن عوامل عدة تتفاعل بداخلها وقد تؤدي إلى انفجار نوع من الحرب الأهلية، وبخاصة حين نلحظ أن حزب كاديما قد يخسر الانتخابات أمام الليكود، وأن حزب العمل قد لا يخرج إلا بنسبة ضئيلة من النواب، وقد أفرز وضع الحزبين على هذه الحالة طرح فكرة توحدهما معا لمواجهة حزب الليكود، ولمواجهة التيارات اليمينية الأصولية الناشطة. وكذلك حين نلحظ أن المتطرفين (الأصوليين) داخل حزب الليكود قد انتخبوا كأعضاء في قائمته الانتخابية التي ستعرض على الجمهور يوم الانتخابات، وبينهم المتطرف الشهير (موشي فيغلين) الذي سبق له أن نافس نتنياهو على رئاسة الليكود، والذي تمنعه حتى بريطانيا من دخول أراضيها بسبب آرائه التي تهدد الوئام الاجتماعي حسب أقوال وزارة الداخلية البريطانية. هذا الوضع الإسرائيلي، وبتطوراته الجديدة، لا يمكن له أن يبقى بعيدا عن السياسة الأميركية. والأدق القول إن السياسة الأميركية، وفي عهد أوباما بالذات، لا يمكن لها أن تبقى بعيدة عن التطورات الإسرائيلية، وهي تحتاج إلى موقف سياسي منها، لا يقتصر فقط على استهجان هذا الموقف أو تحبيذ ذاك، إنما موقف يتوجه نحو مناقشة السياسة الأميركية تجاه إسرائيل، مع إعادة النظر بها.

وإذا كانت هناك أمور كثيرة تحتاج إلى نقاش في هذه السياسة الأميركية، فإن موضوع الموقف من الإرهاب يبرز من بينها كموضوع له أولوية.

لقد أقدمت واشنطن بعد أحداث 2001 على اعتبار المقاومة الفلسطينية للاحتلال نوعا من الإرهاب، وعلى اعتبار العنف الإسرائيلي ضدها عملا مشروعا للدفاع عن النفس، ورفضت واشنطن باستمرار دعوات عربية ودولية لعقد مؤتمر دولي لتحديد مفهوم الإرهاب، وللفصل بينه وبين (حق مقاومة الاحتلال)، ولذلك يمكن القول إن المفهوم الأميركي للإرهاب أصبح مصدر تشجيع للإرهاب الإسرائيلي في فلسطين.

ومن شأن موقف أميركي جديد، يقيم فصلا بين الإرهاب وبين النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، أن يلجم نشاط الأصوليين اليهود، وأن يضع أفكارهم وحججهم في دائرة الاتهام العالمي، وليس فقط في دائرة الاتهام الإسرائيلي كعمل ضد السلطة.