مطربان

TT

لا أدري لماذا ابتلي الكثير من نجوم الأوبرا بالسرطان. كان منهم المغني الأوبرالي الإسباني يوسه كريراس. دخل في نزاع مرير مع غريمه ومنافسه بلاسيدو دومينغو. سمعنا الكثير عن غيرة المرأة . ولكن يا ويلاه، أين ذلك من غيرة الأدباء والفنانين من بعضهم البعض؟! اشتد هذا النزاع بين هذين المطربين النجوميين عام 1984 عندما أضيف للغيرة المهنية خلاف سياسي. فقد كان دومينغو مدريدياً، في حين كان كريراس كتلانياً متحمساً لمطالب كتلانيا بالاستقلال الذاتي. بلغ النزاع بينهما حدا جعل كلا منهما يتحاشى سماع أو لقاء الآخر في أي مناسبة. أخذ الاثنان يشترطان في أي تعاقد غنائي ألا يشترك الآخر معه في العمل مطلقا.

حلت الكارثة بكريراس عندما وجده الأطباء مصابا باللوكيميا. منعه ذلك من مواصلة عمله في الوقت الذي احتاج فيه إلى أموال طائلة للعلاج. اكتشفوا في أمريكا طريقة لمعالجة هذا المرض الخبيث تقتضي حضور المريض إلى نيويورك مرة كل شهر. فعل ذلك كريراس حتى استنفد كل توفيراته. لم يعد لديه ما يستطيع إنفاقه على العلاج. قرر الاستسلام للمرض والاستعداد للموت. بيد أن صديقا أخبره بوجود صندوق خيري «هرموسا» تأسس حديثا لمساعدة مرضى اللوكيميا. نصحه الاتصال به. فعل وجاءه الجواب بتعهد الصندوق تسديد كامل التكاليف.

عاد كريراس لمراجعة المستشفى حتى شفي من المرض كليا. وفي نشوة شفائه وعودته إلى عمله مطربا نجوميا، قرر رد الجميل بالجميل بالتطوع لمساعدة ذلك الصندوق الخيري. ولكنه جلس وراح يدرس نظام هذه الجمعية الخيرية وتاريخها. ولشدة دهشته اكتشف أن من أسسها ومدها بالمال كان بالذات خصمه اللدود دومينغو. وأسسها خصيصا لمساعدته. كان يعلم أنه إذا قدم المساعدة له مباشرة سيرفضها بإباء. فأسس الجمعية من وارداته ليتستر وراءها في مد العون لعدوه بدون علمه.

دهش الجمهور بعد ذلك بقليل عندما رأوا كريراس جالسا في الصف الأمامي يستمع لغناء خصمه دومينغو في حفلة أوبرالية كبيرة. ما انتهى الغناء وضج الجمهور بالتصفيق حتى انقطعت أنفاسهم وهم يرون كريراس ينهض من مقعده ويرتقي المسرح ويمشي نحو دومينغو. حبسوا أنفاسهم وهم يتوقعون أن يهجم على خصمه وتنشب معركة بين الاثنين. ولكن كريراس خر على قدمي دومينغو وقبلهما ثم وقف يعتذر عن كل ما قاله ضده ويشكره على إنقاذ حياته. وتعانق الاثنان بتلك الحرارة التي لا يجيدها أحد كالإسبان. سألوا المحسن: كيف فعلت ذلك؟ فقال: كيف أترك صوتا كصوت كريراس يموت؟ ومن حينها بدأ الاثنان يغنيان معا، وسرعان ما انضم اليهما المطرب النجومي الآخر بافروتي ليشكلوا ذلك الثلاثي الشهير «التنور الثلاثة».

لا أسرد هذه القصة من باب الإعجاب بالحضارة الغربية. لدينا الكثير من حكايات مشابهة من مساعدة بعض أثريائنا للمحتاجين من فنانين وأدباء مرضى. أمتنع عن ذكرهم حرصا عليهم؛ فكتمان الصدقات أقرب لمرضاة الله عز وجل، ولكن سيطيب لي أن أسمع ما يجود به القراء من مثل هذه الحكايات.

www.kishtainiat.blogspot.com