خطط الهجوم

TT

رسا قارب صغير يقل عشرة رجال شباب في رصيف ميناء مدينة يبلغ عدد سكانها 18 مليون نسمة. وفي غضون دقائق من ملامسة أقدامهم أرض الشاطئ، كانوا يلقون بالقنابل اليدوية ووابل من الرصاص على المارة. وبعد أيام قليلة، وصلت محصلة القتلى إلى قرابة 200 شخص، علاوة على أعداد أكبر من المصابين، وتوقفت الحياة في العاصمة المالية لدولة يصل تعداد سكانها إلى مليار نسمة، بينما تركزت أنظار العالم بأسره على ما يجرى هناك.

للجزء الأكبر من العالم، تبدو مذبحة مومباي عملاً عشوائياً من المتعذر تفسيره، مثل أعمال الدمار التي تخلفها الأعاصير القوية، أو أعمال قتل لمجرد القتل في حد ذاته، من دون هدف حقيقي. إلا أنه في حقيقة الأمر لم تكن المذبحة عملاً عشوائياً أو بلا هدف، وإنما محاولة لتعزيز استراتيجية عامة تتبعها الشبكة الإسلامية الراديكالية. وتقف هذه الشبكة من الجماعات على مشارف عام 2009 بأجندة محددة، وكذلك الحال مع القيادة القادمة للعدو الأول لهذه الشبكة: الولايات المتحدة. ومن أجل تفهم أسلوب تفكير الجانبين، دعونا نتخيل اجتماعين يخطط خلالهما كل جانب لأجندته على صعيد الإرهاب لعام 2009.

تتسم مدينة روالبندي بطابع عسكري، حيث تضم كبار الضباط الباكستانيين ومسؤولي المؤسسة العسكرية المتقاعدين. من الناحية الظاهرية، يبدو هذا الأمر كافياً لجعلها مكانا غير محتمل لاجتماع أكثر الإرهابيين المطلوبين على مستوى العالم، والذين أطلقت عليهم واشنطن «أهداف قيمة». لكن روالبندي هي المدينة التي اختبأ بها قائد منفذي هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، خالد شيخ محمد، نظراً لأنها آخر مكان قد يخطر على بال أحد أنه يختبئ به. وعليه، ربما تُقدم قيادات تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان»، التي عاودت الظهور بقوة في أفغانستان، وبعض الجماعات الإرهابية الباكستانية المهتمة بإقليم كشمير على الاجتماع مجدداً في المدينة ـ ربما في منزل آمن يملكه أحد القادة المتقاعدين من وكالة الاستخبارات الباكستانية العسكرية القوية والغامضة والمعروفة باسم الاستخبارات الباكستانية الداخلية، ممن يتعاطفون مع الإرهابيين. ويجلس قرابة ستة رجال ذوي لحى ويرتدون عباءات واسعة على بساط على الأرض، مشكلين دائرة. وباعتباره القائد الشرفي للحركة، سيفتتح أسامة بن لادن الاجتماع، وبعد حمد الله، يوجه الشكر إلى الجنرال السابق في الاستخبارات الباكستانية الداخلية لاستضافته اللقاء. ويقول بن لادن: «ما زلت أذكر جيداً كيف التقينا مراراً في أفغانستان خلال الحرب ضد السوفيات الكفار. وأذكر كيف ساعدتنا في إقامة معسكراتنا التدريبية هناك في التسعينيات، وكيف أمددتنا بملاذ آمن هنا في باكستان عندما غادرنا أفغانستان في أعقاب إسقاط «عملية الطائرات» التي نفذنها للأبراج عام 2001». ويتوقف بن لادن هنيهة ليرشف من كوب شاي، ثم يعاود الحديث قائلاً: «بدت الأوضاع سيئة أمامنا في نهاية عام 2001، لكن الآن بفضل الله وبفضل مساعدة أصدقائنا في باكستان، وصلنا إلى النقطة التي نبغيها تماماً: حيث نستنزف دماء الأميركيين في جبال أفغانستان، ونسير على الطريق نحو إعادة إقرار حكومة من المؤمنين هناك، وخلافة جديدة. وهنا يرمق الملا محمد عمر بعينه الواحدة حليفه السابق، قائلاً بنبرة حادة: «على خلاف الحال معك، ليس باستطاعتي معرفة مشيئة الله. كل ما أعلمه هو الآتي: كنت أحكم إمارة أفغانستان، والآن، بسبب دفعك الأميركيين للمجيء إلى بلادي بعد مخطط الطائرات، أعيش في المنفى. ورغم أني أعيش حياة رغدة بما يكفي، في فيلا بمدينة كويتا تحت حماية الاستخبارات الباكستانية الداخلية، فإن ضباطا باكستانيين عسكريين آخرين يزيدون الأمر علينا صعوبة. وتستعد قواتي لتحرير الوطن من عميل الأميركيين، حامد كرزاي. إلا أنه في بعض الأحيان، عندما يصر الأميركيين، تسبب المؤسسة العسكرية الباكستانية مضايقات لنا. كما أن باكستان لن تمنع الأميركيين من إمطارنا بالصواريخ من الطائرات بدون طيار التي يمتلكونها، ما يسفر عن قتل قواتي».

وهنا يلوح الشاب الوحيد المشارك في الاجتماع، حكيم الله محسود، زعيم جماعة باكستانية تُعرف أيضاً باسم «طالبان»، بإصبعه في الهواء، ويقول: «إذا لم توقف المؤسسة العسكرية الباكستانية هذه المضايقات، سنقطع خطوط الإمداد الخاصة بالأميركيين. إن كافة احتياجات الأميركيين في أفغانستان تمر عبر بلادنا». ثم تزداد ثورة الغضب في نفس الشاب الباكستاني، فيهب على قدميه واقفاً ليقول: «إذا ما أبقت المؤسسة العسكرية الباكستانية على هذا الأمر، سوف نشن الجهاد هنا ونستولي على البلاد! حينئذ ستصبح بحوزتنا القنبلة النووية!». في الطابق الأرضي من البيت الأبيض، يتدفق قرابة اثني عشر رجلا وامرأة إلى داخل «غرفة بحث الموقف»، حاملين بأيديهم تقارير ضخمة وأكوابا من القهوة الساخنة يترأس الاجتماع عضو بمجلس الأمن القومي، وقد أصدر أوامره بعقد هذا اللقاء لأعضاء المجموعة الأمنية لمكافحة الإرهاب، والتي تُعنى بتنسيق الجهود الأميركية بمجال مكافحة الإرهاب. وعلى الجدار القائم خلف رئيس الاجتماع، يوجد ختم رئيس الولايات المتحدة.

يقول عضو مجلس الأمن القومي: «حسناً، دعونا نبدأ. يرغب الرئيس أوباما في وضع خطة رفيعة المستوى لجهود التصدي للإرهاب لعام 2009. أولاً: نحتاج إلى التعرف على الصورة الاستخباراتية العامة». وهنا يتحول بوجهه باتجاه السيدة الجالسة ليساره، والتي تعمل بالمركز الوطني لمكافحة الإرهاب. وبدأت السيدة حديثها على النحو التالي: «حسناً، مثلما سبق وأن ذكرنا في تقرير التقدير الاستخباراتي الوطني للإرهاب، فقد حظينا بالهدوء لبعض الوقت بعد تدميرنا ملاذات «القاعدة» داخل أفغانستان في أعقاب 11 سبتمبر (أيلول). لكن الآن عززت «القاعدة» وجودها من جديد داخل المناطق القبلية الباكستانية، على امتداد الحدود مع أفغانستان. ويحاول الجيش الباكستاني من حين لآخر كبح جماح أعضائها، لكن في جوهره، يتسم الجيش بضعف لا يمكنه من فرض سيطرته على المناطق الحدودية الغربية. وتعكف «القاعدة» على تدريب الإرهابيين هناك، بما في ذلك أوروبيون وآسيويون، وهم أفراد بمقدورهم الدخول إلى الولايات المتحدة خلسة من دون إثارة شكوك. كما تعمل «القاعدة» على بناء ملاذ آخر لها في الصومال، حيث سيطر حلفاؤها المحليون على المدن هناك. ولا تبعث هذه الصورة العامة على الشعور بالارتياح. من المتوقع أن نشهد عام 2009 تنفيذ «القاعدة» هجمات بشبه الجزيرة العربية وأوروبا، بل وهنا داخل الوطن. لكن بطبيعة الحال، لا تتوافر لدينا استخبارات يمكن التحرك على أساسها بخصوص مخطط بعينه».

يطلق مسؤول مجلس الأمن القومي زفرة قوية، ثم يتحول ببصره إلى أدميرال بالبحرية يجلس إلى يمينه، ليتلقى منه تقريرا من المؤسسة العسكرية. ويصدر الضابط إشارة إلى عقيد يجلس خلفه كي يضع رسماً بيانياً على شاشة مسطحة تقع في أحد أطراف الغرفة.

ويقول الأدميرال: «حسبما ترون من الرسم البياني رقم واحد، سوف نعزز وجودنا في أفغانستان بإرسال لواء من الفرقة الـ82 المحمولة جواً خلال الربع الأول من عام 2009. أما ما سنقوم به بعد ذلك فيعتمد على مدى سرعة سحبنا للمزيد من الألوية من العراق وتوجيهها إلى الجبهة الأفغانية». ويضغط العقيد على زر ليظهر الرسم البياني الثاني. ويعلق عليه الأدميرال بقوله: «نتوقع شن طالبان لهجوم ضخم في أبريل (نيسان)، بمجرد انتهاء فصل الشتاء القارس، وهو أمر جيد بالنسبة لنا، لأنه بمجرد أن خروجهم إلى مكان مكشوف، يصبح باستطاعتنا سحقهم بالقوة الجوية». ثم يضغط الأدميرال مجدداً على زر، فيظهر الرسم الثالث. ويقول الأدميرال: «لكن من أجل إحراز النصر في أفغانستان، نحتاج إلى مشاركة وزارة الخارجية. نحتاج إلى جهود بمجالات إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية وإقرار الحكم الرشيد. كما يتعين على وزارة الخارجية إقناع الباكستانيين بتطهير المنطقة الحدودية والإبقاء على خطوط الإمدادات إلى داخل أفغانستان آمنة».

وهنا يأتي دور ممثلة وزارة الخارجية في الحديث، لتبدأ كلمتها بالتحذير قائلة: «لن يكون الأمر هيناً. لقد أحرزنا بعض التقدم مع الباكستانيين العام السابق، بل ودفعناهم للبدء في عملية تقارب مع الهنود. لكن بعد ما حدث في مومباي، يتهدد الخطر كل ذلك. حال إقدام الهنود على المبالغة في رد فعلهم، فقد يتأزم الوضع بالنسبة لنا. نحن بحاجة إلى أن يستغل رئيسنا الجديد القبول الكبير الذي يحظى به داخل جنوب آسيا، ليس فقط للحيلولة دون اندلاع حرب بين الجانبين، وإنما للتوسط في عقد اتفاق بين الهند وباكستان. كما يتعين عليه إقناع حلفائنا في الناتو بالإبقاء على قواتهم داخل أفغانستان، وربما زيادة أعدادها قليلاً والسماح لها بخوض القتال. وبطبيعة الحال، سيتعين عليه الفوز في حرب الأفكار من خلال إعادة التأكيد على مساندة أميركا للديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي». بعد مضي سبع سنوات على هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، لم تتمكن الولايات المتحدة بعد من القضاء على التهديد الصادر عن «القاعدة» وتأمين أفغانستان، التي اتخذ منها الإرهابيون العاملون تحت امرة بن لادن من قبل مقراً لهم. ومن أجل إنجاز هاتين المهمتين، يجب القضاء على الملاذ الآمن الجديد للإرهابيين في باكستان، لكن ذلك سيتطلب اتخاذ إجراء فاعل من جانب حكومة إسلام أباد الضعيفة والممزقة. وربما يعتمد الأمر أيضاً على كيفية التعامل مع الخصومة الهندية ـ الباكستانية طويلة الأمد. وبالمقارنة بين الجانبين، نجد أن أجندة «القاعدة» لعام 2009 تبدو أيسر.

* منسق مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض، في عهدي الرئيسين الأميركيين بيل كلينتون وجورج بوش

* خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)