في أعين العرب

TT

حين يقرأ العرب أنباء المسيرات الصاخبة وأعمال الشغب الغاضبة في المدن اليونانية، التي تراوحت بين رشق مراكز الشرطة بالحجارة، وتحطيم واجهات المحلات، ومهاجمة المصارف وحرق السيارات، على خلفية مقتل الفتى ألكسي غريغوروبولوس، البالغ من العمر (15) عاماً، برصاص شرطي، إثر مشاحنة جرت قبل أيام في وسط أثينا، لا بدّ وأنهم يستذكرون موقفهم الصامت من قيام المخابرات الإسرائيلية باغتيال المئات من الأطفال والفتية والتلاميذ الفلسطينيين، الذين يتمّ قتلهم عمداً أمام كاميرات الصحفيين برصاص الاحتلال الصهيوني، من دون أن يحرك العرب ساكناً، حكومات كانوا أم إعلاما، وفي كلّ أقطارهم ضدّ إراقة الدم العربي، ومن دون أن يصرخوا في وجه العالم أنّ حجم الجرائم ضدّ العرب لم يعد يطاق، ولم يعد من الممكن السكوت عنه. حين قتل الطفل (أ) في بريطانيا نتيجة التعذيب، انشغلت الجرائد البريطانية بحجم هذه الجريمة النكراء، واحتمال تقصير المجالس الاجتماعية التي كان يجب أن تنقذ حياة هذا الطفل من الموت تحت التعذيب. والسؤال هو لماذا يرخص الدم العربي إذاً، وحياته على العالم برمّته، ويذكرون شهداءنا أرقاماً مجرّدة عن قدسية حياة الفرد الذي حرّم الله سلبها تحت أيّ ظرف كان؟

حين يقرأ العرب هذه الأيام عن جرائم المستوطنين اليهود ضدّ حياة ومنازل أهالي مدينة الخليل ومدن الضفة الأخرى بهدف تهجيرهم قسرياً، ثمّ يقرأون خبر «تنديد مجلس الأمن بالاستيطان»، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، لا بدّ أن يتساءلوا لماذا ترخص الكرامة العربية إلى هذا الحدّ في أعين المنظمات الدولية والعالم الديمقراطي برمّته؟ ولماذا لا تعتبر المجتمعات المتحضّرة العرب مساوين لهم في الحقوق والكرامة؟ لا بل إنّ الصور التي نشرتها جريدة «الغارديان» وجريدة «الهيرالد تربيون» البريطانيتان تُري وكأنّ المستوطنين اليهود هم الذين يتعرّضون للمعاناة وليس ضحايا جرائمهم من العرب الذين يتعرّضون على أيديهم لأعمال الإبادة والتهجير والحرق والتدمير! وقد أصبح التناغم واضحاً بين المسؤولين الإسرائيليين والمستوطنين من اليهود المتعصبين والعنصريين، بعد أن أصبحت تسيبي ليفني ممثلاً رئيسياً لهم، حين صرّحت مؤخراً بدعوتها إلى تهجير مليون ونصف المليون عربي من أرضهم، ومعبّرةً أيضاً عن رفضها المطلق لأيّ مبادرة سلام عربية أو دولية، وبهذا فهي تقدّم الإطار والحافز والدافع لكلّ ما يقوم به المستوطنون اليهود من جرائم ضد المدنيين الفلسطينيين. تقول ليفني «على العرب في إسرائيل أن (ينتقلوا) إلى مناطق الدولة الفلسطينية بعد قيامها.. كي نبني دولة يهودية ديمقراطية، علينا أن نبني دولتين قوميتين مع تنازلات معينة وخطوط حمر واضحة، وعندما ننجز ذلك أستطيع أن أتوجّه للفلسطينيين، مواطني إسرائيل، وأقول لهم إنّ الحل القومي لقضيتهم موجود في مكان آخر». ماذا يعني هذا الكلام سوى تهجير وطرد السكان الأصليين، ووضع مستوطنين مستقدمين من أماكن لا علاقة لها بالأرض والإنسان هنا مكانهم؟ تخيلوا أن «ينتقل» أبناء بلد ما أوروبي لأنّ آخرين قرروا أنّ هذه الأرض لهم، ويريدون أن يحلوا محلهم. لا بل إنّ حملات الترويج للمستوطنين اليهود وعمليات الاستيطان الإجرامية قد بدأت على أشدّها في الإعلام الغربي. فها هي جريدة «الغارديان» الأسبوعية تقول إنّ «الحاخام مناحيم فرومان يعتقد أنّ الله قد أعطاه الحقّ الأكيد للعيش في الضفة الغربية الفلسطينية»، وتضيف الجريدة «ولكن وبخلاف بعض المستوطنين الذين يستخدمون العنف للحصول على الأرض، فهو يدعو إلى دولة ثنائية القومية، حيث يتشاطر الفلسطينيون معهم السيطرة». الاستنتاج الوحيد الآن هو أنّ المستوطنين الإسرائيليين شنّوا حملاتهم الإجرامية ضدّ الفلسطينيين بتنسيق مع المسؤولين الإسرائيليين لوضع مسألة الاستيطان على الجدول الدولي، ولإثارة موضوع تهجير فلسطينيي 48 كما فعلت ليفني.

يأتي قرار وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين بالإجماع على رفع مستوى العلاقات مع إسرائيل يوم الاثنين 8/12/2008، وسيكون أوّل تعبير عن هذا القرار هو اللقاء الأول من نوعه بين رئيس وزراء إسرائيل، الملطّخة يداه بدماء مئات المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين، وقادة أعضاء الاتحاد الأوروبي في بروكسل في نيسان القادم. والمفارقة في الأمر هو أنّ بعض العرب عبّروا عن استغرابهم من هذا القرار، بينما «إسرائيل» تواصل حرب إبادتها ضدّ الشعب الفلسطيني الأعزل، ويعيث المستوطنون اليهود خراباً وإحراقاً وقتلاً في الخليل ومدن الضفة الغربية الأخرى. ولكن هؤلاء العرب ربما لا يرون أنّ الصور في الإعلام الغربي «الحرّ» تتحدث عن معاناة المستوطنين اليهود، وليس عن معاناة المدنيين الفلسطينيين الذين يحرق المستوطنون منازلهم، ذلك لأنّ حياة المدني الفلسطيني لا تساوي في أعين الغرب «الديمقراطي الحرّ والمتمدّن» حياة الإنسان كامل الكرامة والحقوق، وإلا لما صمت هؤلاء المشبعون بالعنصرية والكراهية المفعمة للعرب عمّا يجري في فلسطين والعراق، ولما تجاهل هؤلاء «المتحضّرون» لآخر حرب إبادة، ما تزال تجري في التاريخ، وأبشع محرقة تمارس ضدّ شعب فلسطين بكامله لا لذنب اقترفه، بل لأنه ولد على هذه الأرض الطاهرة المقدّسة. ولا يسأل أحد ماذا لو أردنا إعادة العالم إلى ما كانت عليه الجغرافيا قبل ألفي عام؟ وماذا إذا صمت العالم عن كلّ من تسوّل له نفسه أنّ له حقاً في مكان ما ويستخدم السلاح والطغيان لطرد الشعب الأصلي من أرضه ووضع يده على الأرض والمياه والشجر والحجر والمستوطنين مكانه؟!

إنّ جوهر المسألة هو ما عبّر عنه الفيلم الفرنسي «أغاني كليري» من عنصرية تجاه العرب. وما لم يقف العرب في وجه هذا التيار العنصري الذي يستهدفهم، وما لم يرفعوا أصواتهم عالياً في وجه حملات العنف والتطهير العرقي والقتل والتهجير، فإنّ العالم «المتحضّر» سيستمرّ بتجاهل قضاياهم وإيجاد تفسيرات بحقوق مقدّسة لمحتلين ومستوطنين يمثلون أبشع نموذج للعنصرية القاتلة. تخيلوا لو أنّ أيّ كيان في الأرض تحدث عن تهجير مليون من مواطنيه لأنهم يدينون بدين مختلف مع أنهم هم السكان الأصليون في الأرض، ماذا كان سيحدث في العالم؟! أما اليوم فقد بحثت بصعوبة عن تصريحات ليفني العنصرية بحقّ عرب 1948، فلم أعثر على تعليق واحد أو اعتراض واحد في جريدة أجنبية على هذا الموقف الغارق في العنصرية والحقد والكراهية.

ولكن هناك عِبَرا أخرى رآها العرب هذا الأسبوع في أحداث متزامنة ولكن مختلفة. فبالإضافة إلى مقتل الطفل أليكسي في اليونان، الذي أثار اعتراضات صارخة، ومظاهرات غضب عنيفة وعارمة، فقد شهد هذا الأسبوع أيضاً وفاة بطريرك موسكو أليكسي الثاني، الذي استمرّ على مدى عشرات السنوات بالحفاظ على حقه في دور الكنيسة الأرثوذكسية رغم كلّ ما تعرّضت له من صعوبات أثناء حقبة الاتحاد السوفياتي. ومن شاهد الجنازة المهيبة للبطريرك أليكسي الثاني، يدرك أنّ أعتى قوة في العالم لا تستطيع أن تنتزع من قلوب الشعوب ولاءاتهم الحقيقية بإيمانهم الصادق سواء لحقّهم في الأرض أو الدين أو الوطن.

ولذلك فإنّ الممارسات العنصرية الإسرائيلية وكلّ الدعم الذي تلقاه من الغرب «الديمقراطي» لن يكتب لها النجاح ولا البقاء، ولن يتمكن المستوطنون اليهود من تحويل أرض فلسطين إلى مرتعٍ لهم، طالما هناك دماء طاهرة تسري في العروق بحبّ الوطن. وإذا كان الصمت والتواطؤ الدوليان يسمحان باستقبال ليفني وهي تعبّر عن أشدّ المواقف العنصرية المعروفة في التاريخ، فإنّ التاريخ لن يرحمها ولن يرحم الذين تواطأوا معها، ولن تزيد هذه الإجراءات الإجرامية الصارخة ضدّ حقوق الإنسان الفلسطيني وكرامته، وضدّ العدالة في فلسطين، العرب والفلسطينيين إلا تمسّكاً بحقوقهم. ومن يقرأ التاريخ يعلم أنّ الانتصار في النهاية هو للشعوب المؤمنة بحقوقها التاريخية مهما تعاضدت قوى الظلم والطغيان ومهما طال أمد هذا الطغيان. قراءة أحداث الأسبوع الأخير بأعين عربية يجب أن تُملي على العرب ضرورة الوقوف صفاً واحداً، والإيمان بأنّ الموقف من العرب في فلسطين وفي كلّ أقطارهم هو موقف عنصري بغيض واحد يستهين بكرامتهم جميعاً ومستقبل أبنائهم كلهم ومن دون استثناء. فهل من ردود عملية مختلفة عن إرسال رسائل أو إصدار أسئلة تستغرب هذه المواقف لأنها تفترض أنّ الآخرين ينظرون إليهم بعين الندّية وهذا ما ليس قائماً. يجب أن نرى الأحداث بأعين عربية وأن نريها للعالم بأعيننا أيضاً لا بأعين من يستعدينا ويستهدفنا في الصباح والمساء.

www.bouthainashaaban.com