الكويتي في ذكراه

TT

جرى في قاعة بروناي بلندن قبل ايام الاحتفال بالذكرى المئوية للموسيقار صالح الكويتي، أبي الموسيقى العراقية المعاصرة. اشتهر بأغانيه العاطفية التي غنتها سليمة مراد، أم كلثوم العراق في الثلاثينات والاربعينات. «قلبك صخر جلمود ما حن علي» و«يا نبعة الريحان حني على الولهان...» وسواهما من الاغاني التي أصبحت أناشيد على ألسنة الصغار والكبار، الرجال والنساء.

كانت أغاني تتدفق بالعواطف والشجون، ولا عجب. فالفنانون لا يبدعون كما يفعلون عندما يمسهم الموضوع شخصيا ويصبح قناة يعبرون بها عما يختلج في قلوبهم وتفكيرهم. وصالح الكويتي وضع أغانيه في غمرة حبه للمغنية زكية جورج. كانت هذه النجمة من نجوم الطرب العراقي, امرأة مسلمة من حلب وباسم فاطمة. وعندما جاءت لتكسب عيشها في بغداد وجدت ان من الصعب عليها ان تصعد على الشانو (خشبة المسرح) في الكباريه وتغني بين السكارى وهي مسلمة وتحمل اسم فاطمة الزهراء. فغيرت اسمها الى زكية جورج وادعت بأنها مسيحية. ماكو مانع! زادت الطين بلة بأن وقعت في حب يهودي كان يعلمها اغانيها ويدرسها الموسيقى، صالح الكويتي نفسه. هام بها وهامت به. ولكن قلوب الغواني حول.

جاء شهر رمضان وأغلقت كباريهات بغداد أبوابها احتراما للشهر المجيد. لم تعرف زكية كيف تكسب قوت يومها. سمعت أن البصرة كانت اكثر تحررا من بغداد ولم يعبأ اهلها كثيرا بالمناسبات الدينية. يا سبحان الله، مغير الاحوال! رحلت زكية جورج للبصرة واستأنفت سابق عيشها. وهناك وقعت في حب طبيب أسنان، أخطر من في الرجال على عفة الحسان.

لم تعد إلى بغداد فراح صالح الكويتي يعاني وجدا وشجنا. تدفقت عواطف الفنان.

«يا ولفي ما كان الأمل ويانا ثالث يشترك!» وتوالت الاغاني العاطفية الشهيرة التي بث فيها الكويتي لواعج الهجران، يئن فيها ويتوسل:

مليان كل قلبي حكي.

المن اقولن واشتكي؟

ما ينفع قليبي الندم ،

ما ينفع عيوني البكي.

وبها وضع هذا الموسيقار أسس الطرب العراقي المعاصر. فقد كان العراقيون لا يعرفون من الموسيقى غير أغاني المقام الرجالية والكلاسيكية المحصورة بين النخبة الصغيرة، والأغاني الريفية الفلاحية، العتابات والعبوديات والنايل ونحوها مما يغنيه الفلاحون وبائعات اللبن. لم يكن أي من ذلك يفي بحاجة الطبقة المتوسطة الناشئة حديثا في العراق، أهل النفط والتجار وضباط الجيش وأصحاب المهن وكل الفئات الصاعدة في المجتمع العربي المعاصر. جاء صالح الكويتي وملأ هذا الفراغ بأغانيه وموسيقاه الجديدة النكهة والمعبرة عن مشاعر فتيان وفتيات الطبقة البتي برجوازية الجديدة.

لقد توفي هذا الموسيقار المبدع قبل سنوات في اسرائيل بعد رحيله عن وطنه الذي اغناه بموسيقاه وأغانيه مثلما أوحى له بألحانه وكلماته. وكان رحيله خسارة كبرى للفن الموسيقي في العراق. لقد رحل وانتقل الى دنيا الآخرة ولكن أغانيه بقيت وستبقى معنا نغنيها كلما اهتزت مشاعرنا وتولانا الحنين الى بغداد أيام الخير.