الحوار بين الدينيِّين والمثقفين.. متى ولماذا؟

TT

أحرق الانجليز آخر زنادقتهم منذ نحو ثلاثمائة عام. ما زال لدى العرب مَنْ يزندقهم، وهو منهم وفيهم. ينطلق كالبوم من الخرائب المهجورة يكفر مجتمعاتهم. يبيح علنا قتلهم وذبحهم لاستعادتهم من «جاهليتهم»، منذرا نفسه لـ«جهادية» دينية تحرق «كفار» العالم أجمع.

من هنا، تتجلى أهمية دعوة العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز إلى الحوار بين الأديان. الغرض بلورة إمكانية التعاون بين هذه الأديان، لإشاعة مبدأ التسامح، والقبول بالتعايش السلمي بين المؤمنين بها، ورفض الإرهاب الديني.

وهكذا، فقد تراجعت إمكانية فرض دين ما على الناس جميعا، ذلك الحلم/ الكابوس الذي أغرى يوما أوروبا المسيحية، بإيحاء وتشجيع من بابوات الفاتيكان، لغزو العرب في جهادية صليبية استمرت ثلاثة قرون. في المقابل، نشر العرب دينهم سلما وحرباً. عندما ارتقت بهم الثقافة الرفيعة لم يفكروا بأسلمة الإسبان والبرتغاليين، على الرغم من بقائهم في شبه الجزيرة الآيبيرية ثمانية قرون.

بعد تاريخ حافل ببشاعته للحروب الدينية، ما هو السر في نجاح مؤتمرات الدينيين المنتسبين إلى أديان مختلفة؟ السر في أن هذه اللقاءات لم تكن للمفاضلة بين الأديان. لم يكن الحوار يدور حول الثوابت المقدسة في كل دين، وإلا لكان الإخفاق مصير القمة واللقاء، بل لأدى الجدل إلى سلبية الغاية، إلى مزيد من التعصب العقيم.

من هنا، تبدو محدودية مبدأ الحوار بين الأديان، لا إمكانية لإقامة سلام على أساس فرض دين معين واحد على المتحاربين. هناك إذن اتفاق على الاختلاف. اقتناع وتفاهم بأن هناك سقفا لا يستطيع الحوار أن يتجاوزه. لا شك أن العاهل السعودي راعي مبدأ الحوار يدرك ذلك. يكفيه الغرض النبيل والسامي. يكفيه كسر الحاجز المعنوي والنفسي أمام ألوف ملايين البشر وهي ترى رجال أديانها يلتفون ويخرجون بدعوة لنشر السلام بالألفة والتسامح وقبول العيش المشترك.

محدودية الحوار بين الأديان يعترف بها الدينيون أنفسهم. يقول سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر إنه يرحب بالحوار الديني من أجل هذه الأهداف. لكنه «ضد الحوار في العقيدة»، لأن أي حوار على أساس «أنتم على باطل ونحن على حق» أو بالعكس، «فهو حوار عقيم... من شأنه أن يزيد كل طرف تمسكاً بعقيدته».

بعد عشر سنوات من كلام شيخ الأزهر عندما كان مفتيا للديار المصرية، يأتي بابا الكاثوليك بنديكت ليفصح عن الرأي ذاته: «الحوار بين الأديان، بالمعنى المحدد للكلمة، ليس ممكنا» لاستحالة الجدل حول المقدس في كل دين، حول الثوابت الدينية التي تختلف بين دين وآخر. لكن البابا يرحب بالمبدأ السلمي للحوار الديني الذي يرعاه العاهل السعودي، بل يؤكد على ضرورة استمراره، لا سيما بين الكاثوليك والمسلمين، لإدانة الإرهاب وحماية الحرية الدينية.

بالطبع، حوار الأديان لا يروق للدينيين المتطرفين الذين احترفوا القتل الجماعي بالزندقة والتكفير. بدت الجهادية الانتحارية مصممة على تعكير الأجواء السلمية التي أشاعتها قمة نيويورك. ارتكبت مجازر ضد الهنود في مومباي. ضد العرب والأكراد في كركوك. ما زالت ترتكب مجازر ضد المجتمع الجزائري المسالم. لا وقت ولا مجال لدى هذه «الجهادية» للتسامح. لن تسمح للمجتمعات الإسلامية أن تمعن التفكير في معنى ومغزى تداخل الأثواب الدينية الفضفاضة التي تحمل رموزا لأديان تصارعت، وما زال صموئيل هنتينغتون متفائلا في «حتمية» استمرار الصراع بينها.

في إتقانه فن الاستغلال السياسي، قدم شمعون بيريز في قمة نيويورك اسرائيل حمامة سلام. لم يوبخ بيريز الحاخامات الذين يدعون لقتل العرب وطردهم ونعتهم بأبشع النعوت. لم يتطرق إلى الاضطهاد الدموي اليومي للعرب في غزة والضفة. تناسى بيريز المتعصبين اليهود الذين يقتحمون مدينة الخليل، بقيادة حاخامات لا يؤمنون بحوار الأديان، وبحماية جيش مستعد لقصف وقتل 1200 لبناني في عام 2006، لمجرد أنهم من دين وشعب آخر غير «شعب الله المختار» الذي يتباهى بيريز بالانتساب إليه.

لاختبار حرارة التسامح الذي أسفر عنه الدينيون في لقاءات الحوار بين الأديان، أعتقد أن حوارا عربيا موازيا يجب أن ينشأ بين الدينيين والمثقفين. أيضا، هذا الحوار المنشود يبقى عقيما وفاشلا، إذا تجرأ المثقفون، وحاولوا بشكل وآخر طرح ثوابت المقدس الديني على النقاش.

بدلا من ذلك، قد تكون «حرية العقل» عنوانا صالحا لهذا اللقاء، أعني إلى أي مدى يستطيع الدينيون، بعد أن أحكموا سيطرة الإيمان على الإعلام وجمهور الشارع الديني، أن يتجاوبوا في تسامحهم المعلن، مع مطلب المثقفين بتأمين مساحة من الحرية للثقافة والفكر السياسي وللابداع الفني والأدبي.

هل من نظام عربي يقدم على رعاية مثل هذا الحوار؟ واضح ان النظام العربي بات منحازا الى الدينيين. فهم على اختلاف درجة تسامحهم، يظهرون صفا واحدا متراصاً ازاء الاشكالية الثقافية العربية، فيما يبدو المثقفون العرب أكثر انقساما واختلافا حول قضايا فكرية وثقافية وسياسية كبرى.

واضح مثلا انحياز عابد الجابري المثقف والمفكر، في تشريحه العقل العربي، الى العقل الديني كما شكله التراث السني التاريخي، في حين يحصي جورج طرابيشي «هفوات» الجابري متهما اياه بسد الطريق أمام حرية العقل العربي المعاصر. لكن الطرابيشي نفسه لا يستطيع دفع الاتهام له بالارتداد الى «عرينه» الديني والطائفي، بعدما رأيته رأي العين في شبابه يقاتل في الشارع جمهور الانفصاليين السوريين الذين انقلبوا على الوحدة بين مصر وسورية.

الى أي مدى يستطيع الدينيون أن يتسامحوا مثلا مع أدونيس، ليس على تدميره ذائقة العرب الشعرية، انما على محاولاته الجاهدة لزعزعة التراث الديني التقليدي، ومطالبته بفصل الدين عن الدولة، كان أدونيس قد حاضر في هذا العام، في القاهرة والجزائر بهذا المعنى.

أعتبر أدونيس ناثرا مبدعا يجاري الصحافي هيكل في جمالية العرض المصقول. لا يعني هذا أني مع أدونيس (78 سنة) في عدائه للمؤسسة السنية التاريخية، منطلقا من جذوره الطائفية (العلوية) ثم من معتقده الآيديولوجي المكتسب، كسوري قومي معادٍ للعروبة.

الدينيون مخطئون في اعتقادهم بأن كل المثقفين العرب علمانيون. الشخصية التاريخية العربية تقوم على تركيب ثنائي مزدوج ومنسجم بين العروبة والاسلام، لا يمكن فصمه أو تجاهله، كما حاول السوري القومي أنطون سعادة، أو مثقفو الفرعونية المصرية، أو فلاسفة العزلة اللبنانية.

الإسلام دين متماسك. ثوابته المقدسة صريحة. شريعته معلنة. هناك مؤسسة دينية تحافظ عليه. لكن ليس بالضرورة ملاحقة مثقف أمام القضاء، لتطليقه من زوجته، أو تكفيره وزندقته واهدار دمه، إذا ما طالب برفع سقف الحرية والتسامح. يكفي أن يقدم الدينيون أدلتهم بالجدل الفكري والنقاش الحر، تماما كما يفعلون اليوم مع معتنقي «الجهادية» الانتحارية.

هل يخشى الدينيون من عقد حوار مع هذه النماذج الثقافية المنقسمة والمشرذمة؟ كل غرضي الاستفادة من التسامح المعلن، في اضفاء قدر من الحرية على الابداع الفكري، فمن دون حرية الثقافة لا يمكن ان تساهم الأمم ذات التاريخ العريق، كالأمة العربية، في بناء الحضارة الانسانية.