إخفاق بوش الأخير

TT

في الوقت الذي يتهيأ فيه للعودة إلى تكساس، يعد رئيسنا الثالث والأربعون المستفيد الأول من انتشار ظاهرة الشعور بالملل من كل ما يتعلق بجورج دبليو. بوش. لقد تبرأت منه الأمة منذ وقت بعيد. والآن، يتطلع الأميركيون للأمام في انتظار تحقق الوعود التي أطلقها باراك أوباما.

في الحقيقة، يعد بوش محظوظاً بوجود الوضع على تلك الحال، ذلك أن أسلوب تعامله مع اقتصادنا المتهاوي يمكن نعته بالهوفري من حيث جوهره وعدم ملاءمته. وتعود هذه التسمية إلى الرئيس هربرت هوفر الذي وضع برنامجاً للتعامل مع الكساد الكبير، تضمن تقديم قروض إلى المصارف، لكن مع معارضة توفير حافز مالي على مساعدة مباشرة للأفراد. ويكشف ذلك أن محاولات هنري بولسون المحمومة لتعزيز القطاع المصرفي ورفض بوش الشديد مساعدة الأفراد تمثل في حقيقتها توجها يمكن أن نطلق عليه هوفري جديداً.

في بداية عقد الثلاثينات من القرن الماضي، كانت لدى هوفر قناعة بأن الجهود المنسقة للقطاع الخاص بإمكانها إنقاذ الاقتصاد المتداعي. إلا أنه سرعان ما اتضح أن الإجراء الوحيد الذي كان باستطاعة الشركات التجارية الخاصة الاتفاق عليه هو إغلاق المصانع والمكاتب وطرد الأفراد من أعمالهم. وتحت ضغوط هائلة كي يتخذ إجراء عملياً، طلب هوفر نهاية عام 1931 من الكونغرس إنشاء مؤسسة إعادة التعمير والتمويل، بهدف تقديم المال إلى المصارف التي يتم اعتبارها جديرة بالحصول على اعتمادات. وبحلول عام 1932، كانت مؤسسة إعادة التعمير والتمويل توفر القروض بالفعل، لكن مع استمرار الانهيار السريع للاقتصاد، تفاقم معدل إفلاس المصارف حتى أسس خليفة هوفر، فرانكلين روزفلت، المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع.

من ناحيته، بدا وكأن هوفر قد تملكه شعور بأنه أدى ما عليه، الأمر الذي دفعه إلى الخلود إلى الراحة والاستكانة. وقد عارض مقترحات من شأنها تمكين ملاك المنازل من التمسك بمنازلهم. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية وتنامي أعداد الفقراء، استخدم هوفر حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قانون يخصص أموالا لصالح الأشغال العامة على أساس أنه يسهم في زيادة التضخم ويمثل إنفاقاً للمال بصورة تمييزية. والآن، هل تبدو هذه الآراء مألوفة لك؟

يقوم توجه إدارة بوش إزاء التعامل مع التراجع الاقتصادي الراهن على توجيه كافة طاقاتها وهباتها المالية نحو مؤسسات الإقراض. وحتى الآن، لم تضع الإدارة برنامجاً لمساعدة ملاك المنازل المتعثرين على إعادة التفاوض بشأن شروط الرهن العقاري الخاصة بهم. ويعارض الرئيس أي إقرار لمزيد من برامج التحفيز، رغم توقف استثمارات القطاع الخاص داخل الولايات المتحدة.

إلا أنه يبدو من الواضح بصورة متنامية أنه في الوقت الذي قد يساعد إنقاذ المصارف في الحد من النكبات التي تضرب البلاد، فإنه لا ينقذ أي شخص آخر خارج دائرة المصارف، فحتى مع توافر اعتمادات تضمنها الحكومة، ترفض المؤسسات المالية إقراض المال. ومع مرور المصارف بحالة إضراب فعلية، فإن السبيل الوحيد كي يستعيد الاقتصاد عافيته يجب أن يبدأ بضخ الحكومة أموال في القطاعات الاقتصادية التي في أمس الحاجة لها، وهي تنمية البنية التحتية والحكومات على مستوى الولايات والأخرى المحلية وقطاع الطاقة البديلة. ويعارض بوش بشدة كافة تلك البرامج. في الواقع، من منظور ما يبدو أن المبررات التي قد يتم طرحها لتفسير جمود موقف بوش أضعف من تلك المتعلقة بهوفر، فعلى خلاف الحال مع هوفر، باستطاعة بوش أن يتعلم من دروس النجاحات الخاصة ببرامج حقبتي الاتفاق الجديد والحرب العالمية الثانية بهدف دفع عجلة الاقتصاد من جديد. على سبيل المثال، خلال فترة رئاسة هوفر، لم تكن النظرية العامة التي وضعها العالم الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز حول كيفية التغلب على الكساد قد ظهرت بعد، لكن هذه النظرية متوفرة لدينا الآن منذ 72 عاماً. علاوة على ذلك، فإن جميع علماء الاقتصاد البارزين تقريباً، بدءاً بمارتين فلدستين إلى من هم أدنى، يؤيدون إنشاء برنامج تحفيز حكومي. إلا أن بوش، بناءً على فكر اقتصادي مجهول المصدر، ظل معارضاً لاتخاذ مثل هذه الخطوات. (وكذلك الحال مع زعيم الجمهوريين داخل مجلس النواب، جون بوهنر، والذي يبدو عاقداً العزم على تعزيز الغباء بحيث يتحول إلى أحد مبادئ الحزب). ومع كل يوم يمر، تزداد وطأة الأزمة المالية على كاهلنا. إذاً، أين مظاهر الغضب العام؟ لماذا لا يحاصر المتظاهرون البيت الأبيض؟

أعتقد أن الإجابة تكمن في أنه ليس باستطاعة المرء سوى الشعور بالاستسلام للأبد حيال رئيس ما سوى مرة واحدة، بينما تتضاءل حدة ردود الفعل تجاه الإخفاقات الكارثية الأخرى التي يرتكبها الرئيس ذاته. على سبيل المثال، وقف الرئيس جيمس بوشنان دون حراك بينما تحرك الجنوب باتجاه الانفصال، وكانت هذه هي الكارثة الكبرى التي قضت على شعبيته. أما هوفر، فوقف ساكناً بينما عصفت الأوضاع الاقتصادية العصيبة بأبناء طبقات المزارعين والعمال والطبقة الوسطى، وهو خطأ تجاوز كل الجهود الممكنة للإصلاح. وبالنسبة لنيكسون، كانت فضيحة ووترغيت القاضية.

أما بوش، فارتكب ثلاث كوارث، أولها: أنه ضللنا بتوريطنا في حرب بلا نهاية بمحض اختيارنا للقضاء على تهديد لم يكن له وجود قط. ثانياً: ترك مدينة أميركية عظيمة تغرق. والآن، يقف متفرجاً بينما يتلاشى الأمن الاقتصادي الذي يتمتع به عشرات الملايين من الأميركيين.

لكن في قلوب أبناء بلاده، حصل بوش لنفسه على مكانة ثابتة، فحتى قبل وقوع الانهيار الاقتصادي الأخير، كان في أسفل سافلين من حيث تقدير الأميركيين له من بين الرؤساء الذي تناوبوا على الحكم، مع بوشنان وهوفر. وعليه، فإنه رغم أسلوبه في إدارة الأزمة الاقتصادية المفتقر إلى الكفاءة بصورة بالغة، لم تندلع مظاهرات غاضبة ضد بوش، وذلك لسببين: شعور الأميركيين بالارتياح لأنه على وشك الرحيل، وعدم رغبتهم في ضرب جثة رجل ميت انطلاقاً من نبل مشاعرهم.

*خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»