أميركا عدو لإيران أم عقبة (أم صديق سري)؟

TT

غوغائية الدعايات السوداء، وتعقيدات الظروف، والمناورات السياسية، وعشعشة نظريات التآمر في العقول، والتناقضات في المواقف، وتشعبات التحليل، عقدت الى حد التعجيز أحياناً، الوصول الى فهم معقول لطبيعة العلاقة بين أميركا وإيران. وليس خفياً أن إيران كانت قريبة جداً الى أميركا في زمن الشاه، والأدلة على ذلك لا حصر لها، من بينها تجهيزها بأحدث طائرات القتال والمدفعية ومنظومات التجسس، إلى حد المباشرة بتأسيس أكبر جهاز مراقبة وتجسس يمكنه تتبع حركة الطائرات على مدارجها، وهي في غرب العراق، والسكوت عن المراحل الأولى لبرامج التسلح النووي، وتدريب ضباط القوات المسلحة بكل فروعها في المعاهد الأميركية.. لكن الثورة الخمينية الحمراء أخلت بمعادلات الربط بين البلدين.

ما لا يمكن تغافله، أن القوات الأميركية لم تعالج كما ينبغي التهديدات والتجاوزات والتدخلات الإيرانية في العراق بعد 2003، كما لم تبدأ بوقت مبكر معالجة فرق الموت المدعومة إيرانياً، بدعوى أنها ليست قادرة على مجابهة تمردين، سني وشيعي في آن معاً، لكنها وجهت ضربات قوية لهذه الفرق بعد أن دخلت استراتيجيتها حيز التنفيذ منتصف 2006.

وقدمت قرارات بريمر خدمة كبيرة للتوجهات الإيرانية في العراق، ومع أنه من غير المنطق إرجاعها الى رغبة في تلبية طموحات إيران. إلا أن المحصلة كانت واحدة. خصوصا عندما تقاس النيات بالأفعال وليس العكس.

ولم تكن إيران جدية وصادقة في مخاصمة إسرائيل، الحليف الاستراتيجي الدائم لأميركا، وما رفع علم فلسطين على مبنى الممثلية الإسرائيلية في طهران، إلا جزء من دعاية تصدير ما يسمى بالثورة في بلاد العرب، ومساندتها لأطراف فلسطينية لا تخرج عن هذا النطاق، والدليل على ذلك عدم حصول تحسن جدي، أو نسبي، في العلاقات مع الدول العربية، ولا ينبغي فهم شعار (طريق القدس يمر من كربلاء)، الذي رفع في زمن خميني إلا على أساس احتلال العراق. وعندما تكون الحال هكذا، فما هي مبررات العداء بين أميركا وإيرا ؟

في الواقع، إن مفهوم العداء بين الطرفين ناجم عن كون المصالح الأميركية، تمثل عقبة كبيرة تحول دون إطلاق يد إيران في الدول الإقليمية، ما يجعل إيران تنظر إليها بمنظار العداوة الاستراتيجية، بحكم الصفة الاستراتيجية البعيدة الأمد، لمصالح أميركا في منطقة الخليج.

وحيث تكون الفسحة متضادة في الخلافات العميقة، يصبح من غير الممكن تحقيق الأهداف الإيرانية الشاملة، أو جزء كبير منها، من دون إلحاق هزيمة فاعلة بالوضع الأميركي العام. وطبقاً لذلك خاضت إيران حربا غير مباشرة ضد الوجود الأميركي في العراق، كان المفترض بالإدارة الأميركية فهمها كحرب مباشرة وليست غير مباشرة، وكان ممكناً وقف التجاوزات الإيرانية.

من التساؤلات المطروحة، أليس ممكناً الوصول إلى اتفاق بين الطرفين على تقاسم المصالح؟ قد يكون هذا ممكناً، في حال وصلت أميركا إلى حالة العجز، مقابل تقدم إيراني واسع في المجال النووي والعراق، لكن أميركا لن تصل إلى حالة التراجع الشامل بهذه السهولة.

ومن أشد الخطوط حمرة بالنسبة لأميركا، أن تقع منابع النفط في يد واحدة، وهو ما دفع الغرب الى حشد الجيوش لإخراج صدام من الكويت. ولما كانت فلسفة الدول العربية، خصوصا الخليجية، تعتمد مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، خسر العرب اللعب بالورقة الأحوازية التي من الممكن أن تكون قوية، والتي من شأنها جعل كل نفط الخليج عربياً، وهو امتناع مريح للمعادلات الدولية. أما إيران فليست مستعدة لفهم معطيات التاريخ ومعادلات المصالح الدولية، وتسعى جاهدة للسيطرة على منابع النفط ضمن مشروع طويل الأمد بدءا من العراق، ولم تدرك أن هوية منطقة الخليج أكبر كثيرا من جزئيات متفرقة محسوبة على معادلات ديموغرافية لونية ضيقة.

لكن أصحاب التساؤلات يخرجون بجديد مفاده: هل يمكن تبرئة أميركا من محاولات شق العالم الإسلامي، ودفعه للتصادم في ما بينه؟ وكأن هذا العالم ليس متشققاً.

ويأتي الجواب: أليست التوجهات الإيرانية، هي التي قادت الى خلافات حادة، وصلت الى مستوى حرب مدمرة، ولم تنجح (إيران) في تحقيق نجاح ملموس في إزالة الشكوك القائمة لدى الدول العربية، ولم تسمح تصرفاتها غير السليمة، في جعل العرب ينظرون إليها كصديق دائم، بدل توصيفات أخرى تمتد رجوعاً الى حقب عجزت عن تجاوزها. فكيف إذا كانت الشكوك قناعات؟ فما تقوم به إيران يتجاوز كثيراً خطوط الشكوك.

لا أحد يمكنه إنكار حقيقة تصادم المصالح بين أميركا وإيران، لكن أصل التصادم يعود الى فهم النوايا التوسعية الإيرانية، التي يراد تحقيقها على حساب الوجود الإقليمي الآخر، لأن المجال الحيوي لإيران لا يمكن ان يتعدى الجوار القريب.

إن لم يكن النقاش وفقا لما ورد، فما مبرر التوتر الإيراني الأميركي؟ لا شيء.

أما تفسير الأشياء، على أساس المفاهيم الثورية وعد إيران ضمنها، وتحسب لها مواقف دعم وتأييد جدي ونزيه للقضايا العربية، ففيه تجن على الحقائق، لأن التجاوزات الإيرانية تعتبر من أكبر القضايا التي تواجه الدول العربية، وأكبرها إطلاقاً بالنسبة لبعضها. فالدور الإيراني في العراق قضية كبرى، واحتلال الجزر الإماراتية قضية، والتدخلات في لبنان واليمن والبحرين.. الخ.

صحيح أن إيران نجحت في بعض قراءاتها، لكن سجلها حافل بالقراءات الخاطئة، وعلى عكس ما يعتقد، فإن اتباع الطرف المقابل نهجا مبنياً على القراءات الخاطئة، لا يقدم فرصة لاستفادة الطرف الآخر، إلا في حالات الحرب الفعلية، التي تستغل فيها الأخطاء آنياً.

ليت إيران تقرأ المعادلات جيداً، وتوقف برامجها غير المشروعة، لأنها لا يمكن أن تكون صديقاً لأميركا والغرب على حساب الجوار عموماً، ودول النفط تحديداً.

مئات الكلمات لا تكفي لإقناع من يعتقد بوجود مؤامرة أميركية إيرانية، لكني على الأقل على غير قناعة في ذلك.

[email protected]