إعادة بناء العلاقات العربية ـ الأمريكية

TT

لا يعلم أحد طبيعة الرسالة التي سيوجهها الرئيس الأمريكي المنتخب إلى العالمين العربي والإسلامي من عاصمة إسلامية لم يعرفها أحد بعد؛ ولكن المؤكد أن ما سيقول به ساكن البيت الأبيض الجديد سوف يتضمن دعوة لفتح صفحة جديدة بعد أن تلطخت الصفحة القديمة بدماء كثيرة، وظنون سوداء. وسواء كان الرجل صادقا أو كاذبا، حرا في انطلاقة جديدة للعلاقات أم أن المؤسسات والأوضاع الأمريكية كلها تلفه في قيود تجعل كل صفحاته جزءا من كراسة واحدة ممتلئة حتى آخرها بمصالح ليس للرجل فيها ناقة ولا جمل، فإنه ليس بمستطاع أحد أن يتجاهل دعوة أمريكية لبداية جديدة في العلاقات العربية الأمريكية. فلن يختلف أحد لا داخل العالم العربي ولا خارجه على الأهمية القصوى للولايات المتحدة الأمريكية، وإذا كانت واشنطن في غاية الأهمية وهي محكومة بإدارة من المحافظين الجدد صبت جام غضبها ولعنتها علي العرب، وتصورت أن بداية التاريخ لو كان له بداية هي أن يتغير العالم العربي كله وفق رؤية أمريكية محددة؛ فإن العاصمة الأمريكية سوف تظل على أهميتها مع إدارة جديدة ترى أن ما جرى كان فيه أخطاء كثيرة آن أوان تصحيحها. وقبل هذا وذاك فإن واشنطن سوف تظل على أهميتها العسكرية والاقتصادية حتى لو كانت مهزومة في العراق، أو حتى تواجه أزمة اقتصادية طاحنة.

فإذا اتفقنا على ما سبق فإن رسالة أوباما سوف تستحق ردا عربيا، فإذا كان هناك في واشنطن من يريد بداية جديدة مع العالمين العربي والإسلامي، فإن هناك في العالم العربي من يريد بداية جديدة مع الولايات المتحدة وربما مع الغرب كله. وإذا كان أوباما سوف يأتي إلى عاصمة إسلامية فلماذا لا يذهب قائد عربي أو أكثر، أو حتى تعقد الجامعة العربية اجتماعا خاصا وتعد رسالة مقابلة إلى واشنطن تفتح فيها صفحة جديدة تقوم على المصارحة والمكاشفة والبحث عن مجموعة من القيم المشتركة التي تصلح مستقبل العلاقات وتجعلها مثمرة لكلا الطرفين. فإذا كانت إدارة جورج بوش قد أقامت خشونتها مع العالم العربي خلال الأعوام السابقة على اختلاف القيم السياسية بين الطرفين؛ فإن إدارة أوباما تحتاج تعرفا على مجموعة من القيم التي تخلق أرضية مشتركة بين الطرفين.

وأول هذه القيم هي الشفافية، فليس سرا على أحد أن الولايات المتحدة كانت لها دوما علاقات وثيقة مع العديد من الدول العربية التي اشتركت معها في النضال ضد المعسكر الشيوعي أو العمل من أجل السلام العربي ـ الإسرائيلي أو الحفاظ على أمن النفط في المنطقة وفي العالم أو مواجهة أشكال مختلفة من الراديكالية. ولكن هذه العلاقات الوثيقة كانت دائما مغلفة برداء من السرية والغموض بسبب العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية؛ وكانت النتيجة هي أن إسرائيل قد كسبت مرتين: مرة بحكم روابط تاريخية وأخلاقية ودينية بينها وبين الولايات المتحدة؛ ومرة بحكم أن الشعب الأمريكي ساد لديه اعتقاد أن إسرائيل وحدها هي التي لديها مصالح مشتركة مع واشنطن في الشرق الأوسط. وعلى الجانب العربي من الصورة فإنه لم يظهر لأمريكا سوى وجه واحد قائم على الوحدة العضوية مع إسرائيل وبات ذلك نقطة للتشهير والابتزاز من جانب جماعات راديكالية متنوعة تحت رداء مقاومة المشروع «الأمريكوصهيوني». مثل ذلك آن له أن يتغير، وأن يعرف الجمهور العربي والجمهور الأمريكي حقيقة العلاقات وما يجري فيها، وما هو موجود فيها من فوائد، وما هو كائن فيها من تكاليف، وعلى هذا الأساس تقوم مصداقية العلاقة كلها.

وثاني هذه القيم هي الواقعية فبقدر ما أدركت الولايات المتحدة «حدود القوة» خلال الأعوام القليلة الماضية، فإن ترجمة ذلك في سياسة أمريكا في العالم العربي تعني أن فكرة نقل العواصم العربية إلى «الديمقراطية» مهما كان نبلها تعطي الولايات المتحدة قدرات وطاقات للقوة والتأثير لا تتوافر لديها، بل أن تجربتها في العراق وأفغانستان تشهد بأن الطريق ممتلئ بالصعاب والعقبات التي يستحسن أن تترك لأهل مكة الذين هم أدرى بشعابها من جماعات ساكنة على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي. ولكن الواقعية ليست مطلوبة من الولايات المتحدة فقط، وإنما هي مطلوبة من العالم العربي أيضا، فمن ستصور أنه من الممكن أن تتخلى الولايات المتحدة عن إسرائيل وبقائها فإنه سوف يكون غارقا في الخيال. وسوف يكون مفيدا للطرفين إدراك أهمية وحجم مصالحه الجوهرية سواء ما تعلق منها بالقضية الفلسطينية بالنسبة للعرب والقضية اليهودية بالنسبة للولايات المتحدة. ومن المعلوم أن لكلا الطرفين مقاييس مختلفة لقياس عدالة كل قضية، ولكنه في العلاقات الدولية فإن من يريد فتح صفحات جديدة فإن حسبه هو إدراك ما هو مهم بالنسبة للطرف الآخر.

وثالث القيم هي شرعية المصالح المشتركة بين الطرفين، فكلاهما يريد حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي حلا سلميا، وهناك في المبادرة العربية ما يكفي لأرضية مشتركة بين كل الأطراف. وبين الجانبين مصلحة لكي يكون الخروج الأمريكي من العراق سلسلا وسلميا وضامنا لبقاء العراق موحدا ومصدرا للاستقرار وليس منبعا للفوضى ومصدرا للراديكالية. ولدى العالم العربي والولايات المتحدة مصلحة في الحرب ضد الإرهاب، ومهما كانت جراح واشنطن في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإن ما جرى في العالم العربي كان أكثر دموية وفداحة، ووفق كل الدراسات فإن ضحايا الإرهاب من العرب فاق كل الأعداد التي دفعت الثمن في العالم. ولن يختلف أحد لا في العالم العربي، ولا في أمريكا، على وجود قائمة طويلة من المصالح الاقتصادية تتعلق بالنفط والتجارة والاستثمار والسوق والتكنولوجيا. ومن الممكن المضي في وضع قائمة أكثر طولا من المصالح العربية الأمريكية المشتركة، ولكن النقطة هنا هي أن الولايات المتحدة والعالم العربي مختلفان من حيث الثقافة والدين والقيم السياسية ودرجة التقدم والتخلف، ومع ذلك فإن شرعية العلاقات بينهما يمكنها أن تقوم على المصالح المشتركة التي لا تقوم على غيرها علاقات دائمة.

ورابع القيم هي المؤسسية فمن المدهش أنه رغم وجود علاقات كثيرة ومتعددة بين واشنطن وعواصم عربية عديدة فإن أغلب هذه العلاقات تقوم على اتفاقيات محدودة، ولا توجد بين أمريكا والعالم العربي صيغة مؤسسية مثل تلك القائمة بين الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية أو بين الاتحاد الأوروبي وعدد من الدول العربية في الإطار المتوسطي لعملية برشلونة أو سياسة الجوار أو الحوار القائم بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربية، مثل هذه القيمة المؤسسية مطلوبة لأنها تخلق الأطر التي تسمح بتبادل الرأي، والبحث عن الفرص والمصالح، والأهم من ذلك كله إدراك الحدود للقوة والقدرات. وفي كل الأحوال فإن المؤسسات هي المكان الطبيعي لإطلاق المبادرات وقياس الأحوال وفض المنازعات. وضمن هذا الإطار فإن هناك حاجة لإطلاق ثلاث مبادرات في إطار العلاقات العربية الأمريكية: أولاها له طبيعة سياسية وتكون لها قدرة على وضع إطار إقليمي لحل المنازعات في المنطقة من أول الصراع العربي ـ الإسرائيلي حتى حالة القرصنة في الصومال مرورا بالعراق والسودان ولبنان وكل ما يقض المضاجع في واشنطن والعواصم العربية الحريصة على استقرار الأوضاع في المنطقة. وثانيها بادرة اقتصادية فبعد أن ارتفع النفط ووصل مع الأحلام إلى عنان السماء، فقد انخفض بسرعة مخيفة كاشفا عن كابوس مروع. وربما آن الأوان لكي نعرف ما تواضعنا على الحديث عنه بأنه «السعر العادل» ونضعه في إطار من التنمية المستدامة التي تأخذ بالعرب إلى تيار التنمية الرئيسي في العالم. وثالثها مبادرة ثقافية فربما كان ما لوث العلاقات العربية الأمريكية في المقام الأول راجعا إلى قيم ثقافية مختلفة آن الأوان لها أن تقترب بدون عنف أو فرض.

وبالتأكيد فإن هناك ما هو أكثر يقال في الرسالة العربية إلى واشنطن، ولكن الحوار العربي الأمريكي لا ينبغي له أن يبقى في يد أمريكا وحدها كما كان الحال عندما كان الصراع هو جوهر العلاقات وسمتها الرئيسية!