ما زلت أتعذب مما رأيته بالعراق

TT

كان يتعين علي الشعور بنشوة الانتصار لدى عودتي من العراق في أغسطس (آب) 2006. إلا أنني كنت بدلاً من ذلك قلقًا، ومنهكًا للغاية. فقد نجح فريق المحققين الخاص بي في اقتناص أحد أخطر وأشهر من عُرفوا بقيامهم بعمليات القتل الجماعية في هذا الجيل، ألا وهو أبو مصعب الزرقاوي ـ زعيم تنظيم القاعدة بالعراق، والعقل المدبر للتفجيرات الانتحارية التي أسقطت العراق في دوامة الحرب الأهلية. ولكن بدلاً من الاحتفال بنجاحنا، ظل عقلي مستنفدا منهكًا من العمل غير المنجز في مهمتنا: وهو إصلاح الطريقة المعيبة إلى حد بعيد، غير الفعالة، وغير الأميركية التي أجرى بها الجيش الأميركي تحقيقاته بالعراق، وما زلت حتى يومنا الحالي منزعجًا، ومشدوهًا من ذلك.

إنني لست من نمط سكان البرج العاجي: لقد خدمت في القوات الجوية الأميركية لمدة 14 عامًا، وبدأت حياتي العملية طيارًا للمروحيات في العمليات الخاصة، وخضت المعارك والعمليات القتالية في البوسنة، وكوسوفو، وأصبحت بعد ذلك عميلاً لدى الاستخبارات المضادة للقوات الجوية، ثم تطوعت للذهاب إلى العراق للعمل ككبير محققين. وما زال طيف ما رأيته بالعراق يلوح أمام عيني مسببًا لي الضيق البالغ؛ وذلك نظرًا إلى أنه يخون تقاليدنا، ومعتقداتنا، كما أنه لم ينم عن أي فائدة. لقد بلغ العنف أوجه خلال جولتي الأولى بالعراق التي استمرت لخمسة أشهر. وفي فبراير (شباط) 2006، أي قبل شهر من وصولي، فجرت قوات الزرقاوي (وهم من أعضاء الأقلية السنية بالعراق) القبة الذهبية لمسجد العسكرية في سامراء، وهو الضريح الذي تمجده الأغلبية الشيعية بالعراق، وهو الحادث الذي أدى بدوره إلى إطلاق عنان المذابح الطائفية. وكانت عمليات القتل الانتقامية يومية الحدوث، وشاعت التفجيرات الانتحارية، شأنها شأن حوادث السيارات، وحينها شعرت أن الدولة بأكملها ستنفجر وتتحول إلى شظايا.

وفي سياق هذه الفترة المتميزة من المخططات، والتكتيكات الاستجوابية، تغيرت مواقفنا وتوجهاتنا. فلم نعد ننظر إلى سجنائنا على أنهم أشرار نمطيون مثل القاعدة، كما كنا نتوقع دائمًا، وبدأنا في رؤيتهم على أنهم عراقيون سنة، وغالبًا ما يكونون أرباب أسر، يحمون أنفسهم من الميليشيات الشيعية، ويحاولون ضمان وصول رفاقهم من السنة إلى مصادر الثروة، والسلطة في العراق الجديد. وما أثار الدهشة أكثر، أنهم تحولوا إلى بغض القاعدة في العراق، على نفس القدر الذي كانوا يبغضوننا به، إلا أن الزرقاوي وأتباعه من السفاحين كانوا على أتم الاستعداد لتزويدهم بالأموال والأسلحة. وقد أشرت إلى هذه النقطة تحديدًا مع الجنرال جورج كاسي – القائد الأعلى الأسبق للقوات الأميركية في العراق- عندما زار السجن التابع لي في صيف 2006. ولم يستجب حينها لي.

إلا أن موت الزرقاوي لم يكن كافيًا لإقناع قوة العمليات الخاصة المشتركة التي أعمل لديها بتغيير موقفها إزاء أسلوب التحقيقات. واستمرت الأساليب القديمة المتبعة. وعدت إلى موطني ويخامرني شعور بأن مهمتي بعيدة كل البعد عن أن تكون قد أُنجزت. وبعد عودتي بفترة قصيرة، علمت الجموع بأن هناك طرفا آخر من حكومتنا – ألا وهو الاستخبارات المركزية CIA- استخدم أسلوب الإيهام بالغرق في خضم محاولاتها لانتزاع المعلومات من المعتقلين.

وكنت أعلم الحجة المقابلة لاستخدام هذه الأساليب، ألا وهي أننا بحاجة إلى استخدام تلك الأساليب القاسية الصارمة في القضايا العسيرة بالفعل. إلا أن هذا ليس صحيحًا دائمًا: فلقد أدرنا العديد من القضايا العسيرة، منها ما يتعلق بالمحاربين الأجانب، باستخدام أساليبنا الجديدة. ورغم أن القليل منهم لم يهجر القضية الجهادية، إلا أنهم مازالوا يزودوننا بالمعلومات الحساسة. وقد قال لي أحد الأشخاص ذات مرة: «لقد ظننت أنكم ستعذبونني، وعندما لم تفعلوا، رأيت أن كل ما أخبروني به عن الأميركيين كان خاطئًا، لذا قررت التعاون».

إن التعذيب ضد تكويننا الأخلاقي، كما أن هذه الإساءات تتناقض مع المبادئ الأميركية. وهناك أيضًا جانب نفعي من تجنب القيام بهذا، إذ أن التعذيب والإساءات يكلف أرواحًا أميركية.

ففي أثناء وجودي بالعراق، علمت أن السبب الأول وراء اندفاع أسراب المحاربين الأجانب للحرب في العراق كانت الإساءات والانتهاكات التي حدثت في سجن أبو غريب، وغوانتانامو. لقد دأبت سياسة التعذيب الخاصة بنا على تجنيد المحاربين سريعًا ومباشرة لدى القاعدة في العراق، كما أن الغالبية العظمى من التفجيرات الانتحارية التي تتم بالعراق مازالت تحدث على يد هؤلاء المحاربين، فضلاً عن ضلوعهم في أغلب الهجمات التي تحدث للولايات المتحدة وقوات الائتلاف بالعراق. وليس من قبيل المغالاة قول أن نصف خسائرنا وضحايانا في العراق تقريبًا جاء على يد المحاربين الأجانب ممن انضموا إلى الصراع نتيجة لإساءاتنا معاملة المعتقلين. ولن يكون هناك أبدًا رقم دقيق للجنود الأميركيين الذين ماتوا نتيجة لسياسة التعذيب الخاصة بنا، إلا أنه من الواضح أن هذا الرقم يقارب عدد الأرواح التي أزهقت في أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

وبعد عودتي من العراق، بدأت في كتابة خبراتي في هذا الشأن، وذلك مرده إلى شعوري بأنني – كضابط بالجيش- لا يتعين علي فقط الإشارة إلى العطب، بل محاولة إصلاحه أيضًا. وعندما سلمت مسودة كتابي إلى وزارة الدفاع للمراجعة المعيارية لضمان أنه لا يحوي معلومات سرية التصنيف، تلقيت صدمة عنيفة، حيث أجل مسؤولو البنتاغون مراجعة الكتاب وأضاعوا الميعاد الأول لطبعه، ثم قاموا بعد ذلك بإعادة تنقيح قدر كبير من المواد سرية التصنيف- منها فقرات نُقلت حرفيًا من كتيب الإرشادات الميدانية للجيش غير المصنف سريًا، تتعلق بالتحقيقات، ومواد تظهر بصورة واضحة على الموقع الرسمي للجيش. وقاضيت الوزارة مرتين، الأولى للانتهاء من عمليات المراجعة المتأخرة، والثانية للاحتكام بشأن عمليات التنقيح التي طرأت عليه. وبات واضحًا أن بعض أعضاء القيادة في الجيش ليسوا مقتنعين فقط بشأن الجدل الدائر ضد استخدام أساليب التعذيب، وإنما لا يريدون أيضًا أن يسمع عنها الأفراد.

وقادتني خبراتي وألقت بي في غمرة حرب أخرى، إلا أنها تعتبر أكثر أهمية من حرب العراق ذاتها. إن الحرب تلو الأخرى تمثل حربًا وقتالاً حول من نكون نحن كأمريكيين. نعم، بإمكان قتلة من أمثال أبو مصعب الزرقاوي أن يقتلونا، إلا أنهم لا يمكنهم أن يجبرونا على تغيير هويتنا، ومن نكون نحن، بل نحن فقط من نقدم بأنفسنا على هذا. وفي يوم من الأيام، عندما يجلس أحفادي على فخذي، ويسألوني عن الحرب، فسأجيبهم، «أي حرب»؟

يجب على الأميركيين ـ ومنهم الضباط من أمثالي ـ القتال لحماية معتقداتنا، وقيمنا، ليس فقط من القاعدة، ولكن أيضًا ممن يريدون تلاشي تلك القيم في بلادنا.

وفي السابق، تحدث بعض المحققين أيضًا عن الخطر الشخصي الجسيم- ومنهم أفراد سابقون في الجيش، والمباحث الفيدرالية، والاستخبارات المركزية، إذ اجتمعوا الصيف الماضي لإدانة التعذيب، كما أنهم تحدثوا مسبقًا أمام الكونغرس. وقيل لنا حينها، إن الخيار الوحيد أمامنا إما المواصلة والاستمرار في استخدام التعذيب، أو مجابهة هجوم إرهابي آخر. ولكن في الحقيقة، فإن هناك طريقا أفضل للخروج من مثل هذا الخيار الكاذب ما بين التعذيب والإرهاب. وأنا شخصيًا متفائل تمامًا في هذه الأيام نتيجة لإجراء ليس صغيرًا على الإطلاق، نظرًا إلى تعهد الرئيس المنتخب باراك أوباما بحظر ممارسة التعذيب وتجريمه في حكومتنا. ولكن حتى نتخلى عن صنوف وألوان التعذيب والإساءات التي وصمت سمعتنا الوطنية بالخزي، ستظل القاعدة تربح. إن الزرقاوي ميت بالفعل، إلا أنه ما زال يجبرنا على الظهور أمام العالم في صورة من لا يتقيد بالمبادئ، والمعايير التي نقول أننا نحافظ عليها. إننا أفضل من ذلك، كما أننا أذكى أيضًا.

* قائد فريق التحقيقات المعين في قوة العمليات الخاصة في العراق عام 2006. ألف كتابًا بعنوان: «كيف تروض إرهابيًا: المحققون الأميركيون الذين استخدموا العقول، وليس الوحشية، لإسقاط أخطر رجل بالعراق».

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ «الشرق الأوسط»