إقليم البصرة.. بين عبدي اللطيف!

TT

لم يتأخر الأمريكيون بالبصرة في اجتياحهم الأخير للعراق مثلما تأخر البريطانيون فيها لحوالي سنتين (1915 ـ1917)، قبل الانطلاق إلى بغداد. كانت فترة كافية أن يفكر وجهاء بصريون بكيان مستقل، لكن لم يحالفهم النجاح آنذاك بسبب الموقف البريطاني الضد ومعارضة بصريين آخرين، استقبلوا الأمير فيصل بالهتاف للوحدة العراقية. ظلت الفكرة في أذهان جيل آخر حتى بعثوها حيَّة بُعيد الاجتياح الأمريكي. طلبها الأوائل كمقاطعة منفصلة يشرف عليها أمير العراق، والأواخر طلبوها إقيلماً يتبع إلى دولة العراق الفيدرالية، شأنه شأن إقليم كوردستان: دستور، ومجلس وزراء، ورئيس، مستندين بذلك على الدستور العراقي الذي يجيز الأقاليم لمحافظة أو عدة محافظات بعد الاستفتاء.

تبنى الفكرة الأولى وجيهان من وجهاء البصرة: أحمد الصانع وعبد اللطيف باشا المنديل، وآخرون، وحفلت عريضة الانفصال بـ 23 نقطة، وقيل وقعها أربعة آلاف ونصف آلاف من الأهالي، قُدمت إلى القنصل البريطاني برسي كوكس، ومن نقاطها: «رجاؤنا هو أن تصير مقاطعة البصرة مقاطعة منفصلة تحت إشراف أمير العراق، أو أي حاكم ينتخبه أهالي العراق، وتكون هذه الرابطة بين البصرة والعراق وحدة يطلق عليها اسم ولايتي العراق والبصرة المتحدتين» (البصرة وحلم الجمهورية الخليجية).

اختصرت فكرة إقليم أو مقاطعة البصرة زمناً طويلاً من الانتماء العراقي المباشر، فمنذ الدولة الأموية (40 ـ 132 هـ) أصبحت الكوفة والبصرة تحت يد والٍٍ واحد، يُعرف بوالي العراق أو أميره. بينما قبلها كان يشار لهما بالعراقين، وكل والٍ مستقل بولايته. هذا ونادراً ما حصل ارتباط بالعاصمة العثمانية مباشرة بدون بغداد. وعلى العموم فشلت الدعوة الأولى وأصبح أهم دعاتها المنديل وزيراً للتجارة ثم للأوقاف في العشرينيات، إلا أنه لم يمارس مهامه كبقية الوزراء حيث تحول إلى نجد. وهكذا أنتهت فكرة الانفصال، لتصبح البصرة اللواء الثالث من حيث الأهمية بعد بغداد والموصل، إلى أن بعث فكرة الإقليم القاضي وائل عبد اللطيف وما زال يحاول لتحقيقها.

يعتقد البصريون، من دعاة الإقليم، أن بلدتهم غنية بالزراعة والماء، وهي تحوي أكبر احتياطي نفطي، وبه وبالموانئ وبساتين النخيل يتشكل عصب الاقتصاد العراقي، لكن من ناحية لم تستفد البصرة من هذه الثروة، وهي التي عانت من الحروب والإهمال، وهي الأولى بما تنتجه أرضها، والأخيرة عند توزيع الثروات! وبالقدر الذي يطالب به البصريون بالإقليم هناك مَنْ يسعى إلى ربطها بإقليم أكبر، ألا هو إقليم التسع محافظات الشيعية، وبطبيعة الحال من البصرة تفيض الخيرات. ولا يبدو الانتماء المذهبي كافياً قاسماً مشتركاً لتشكيل إقليم الوسط والجنوب، فهناك مَنْ يرجح المناطقية على المذهبية.

لم تكن الدعوتان، القديمة دعا لها وجيه سُنّي (1921) والجديدة دعا إليها وجيه شيعي(2003)، طائفيتين، وربما هذا سبب من أسباب نجاحها لدى المعارضين لتصنيف العراق على أساس طوائف، فالبصرة مدينة مختلطة منذ نشأتها، فيها المسلمون من المذهبين، والمسيحيون، والصابئة المندائيون، واليهود حتى هجرتهم الكبرى منذ بداية الخمسينيات.

لا أدري! إلى أي مدى استفاد دعاة الإقليم الجدد في تحريك هذه القضية من رسالة المنديل وصحبه، في تعيين العلاقة مع بقية العراق: أن يكون والياً للولايتين المتحدتين، أي ولاية العراق والبصرة، وبأمره يعين والي البصرة من بين ثلاثة أعضاء من مجلسها، وأن يكون لهما علم مشترك، ولولاية العراق حصة مما يستحصل من الميناء، ومساهمة بنفقات ديوان الولايتين، ويصار إلى نظام مشترك لطرق المواصلات والبريد، وتشكيل مجالس وقوانين مشتركة، وأن يكون للبصرة جيشها الخاص وشرطتها.

يضع أصحاب الإقليم تجربة الإمارات السبع الخليجية في تشكيل دولة الإمارات المتحدة في التشجيع على تحقيق دعوتهم، وهي تجربة قد لا تصلح لعلاقة البصرة بالعراق، فالأخيرة وإن كانت لفترات وجيزة ولاية مستقلة لكن بضمنها بقية الجنوب العراقي، فعادة تشكل ثلاثياً مع العمارة والناصرية، بينما الإمارات السبع كانت مستقلة بعضها عن بعض، وتجربتها من الاستقلال إلى الاتحاد وليس العكس مثلما يُراد لإقليم أو مقاطعة البصرة من الوحدة إلى التفكيك.

عموماً، دار الزمن دورته حيث الاحتلالان: البريطاني (1915) والأمريكي (2003) في أكثر من موقف، إلا أن الدعوة إلى إقليم البصرة، أو البصرة للبصريين، كانت أكثرها وضوحاً، ما عدا أن الأولى فشلت بسسب موقف بريطانيا لصالح مملكة العراق كاملة، من الجنوب إلى الشمال، أما الثانية فلا عقبة كبرى أمامها، والدستور الفيدرالي يُعين على تحقيقها. هذا، ويظل تداخل الأسماء تشابها آخر بين الدعوتين: أن يتزعم الأولى عبد اللطيف المنديل، والثانية وائل عبد اللطيف، ولولا اختلاف المذهب لظن الأبعدون عبديْ اللطيف أنهما الأب والابن! هذا ما لفت نظري إليه الصديق يعقوب آل إبراهيم، الأسرة ذات الصلات التاريخية بالبصرة.

[email protected]