النوابغ

TT

ما أكثر ما يتفاجأ الإنسان بأمور لم يتوقعها ولم تخطر على باله، مثل ذلك الاكتشاف الذي اكتشفته في فندق بجنوب فرنسا، حيث أنني مع أحد الأصدقاء طلبنا حجزاً لغرفتين، وكان لنا ما طلبناه. كانت الغرفتان متجاورتين يفصل بينهما حمام مشترك، كل هذا لا بأس به ومقبول، غير أن ما دعاني للاستغراب (ومَخْوَلَ) عقلي أن للحمام بابين، باباً في غرفتي أدخل منه إلى الحمام، وباباً في غرفة صديقي يدخل منه للحمام أيضاً، والأدهى من ذلك أن البابين هما من الزجاج الشفاف بدون ستارة، والأدهى من الأدهى أنهما أيضاً بدون أقفال، وهذه هي الطامة الكبرى ـ يعني بكل بساطة تستطيع أن (تدفش) الباب بإصبعك فينفتح رأساً بكل سهولة، وتستطيع وأنت مستلق على سريرك مشاهدة كل ما يجري داخل الحمام بكل وضوح، والمصيبة أن هذا هو الحجز الوحيد المتوفر في الفندق وليس هناك إمكانية أخرى.

طبعاً رفضت بكل إباء وشمم أن أسكن في هذا الفندق، فقال صديقي البليد: خلينا نقضي الليلة هنا (والصباح رباح)، وبكرة ندوّر على فندق آخر، وإذا دخل أحدنا الحمام فعلى الآخر أن يغمض عينه، غير أنني أصررت على رأيي، فقال: إذن ما رأيك أن لا نستخدم كلانا الحمام نهائياً.

أجبته: إنني لا أستطيع فالحمام عندي هو أهم من غرفة النوم.

ولم أفتح شنطتي، وسحبتها خلفي نازلا من (الأسانسير) إلى الصالة.

وما هي إلاّ دقائق وإذا بصديقي ينزل يتبعني مثلما يتبع (أبو الحصين) الذئب، وألغينا الحجز.

تركنا حقائبنا أمانة في الفندق وخرجنا نمشي على أقدامنا للذهاب إلى فندق في آخر الشارع على أمل الحجز فيه، وبينما كنا سائرين لفت نظري عامل أنيق منهمك في مهمة ما، أمام باب أحمر براّق (لبوتيك) لأدوات التجميل النسائية، وعندما اقتربت منه ودققت النظر وإذا به ممسك بقارورة (مونيكير) حمراء لطلاء الأظافر، ويدهن بفرشتها الصغيرة بعض الخدوش والتشققات بالباب الأحمر.

فخطر على بالي المثل المصري القائل: (من دهنو سأيلو).

وصلنا إلى الفندق الآخر وحجزنا غرفتين، كل غرفة بحمام مستقل، وطابق مختلف.

وفي صباح اليوم الثاني اتصلنا ببعضنا وخرجنا (نكسدر)، حسب اللهجة اللبنانية ـ، أي نمشي الهوينا ونتفرج على مخاليق ومخلوقات الله ـ، وعندما أعياني شخصياً تعب الفرجة على الجمال وأوقع في أعماقي الحسرة، تاقت نفسي لكوب من (الكابتشينو) مع شريحة من (الكرواسان)، فجلسنا على كراسي إحدى القهاوي على الرصيف، كل هذا تم وما زالت عيوننا (العربية) التي لا تشبع، ما زالت تبحلق، ولم يقطع علينا بحلقتنا اللذيذة غير بائع ساعات أفريقي متجول، وعندما عرض بضاعته علينا اعتذرنا منه، وإذا بطاولة بجانبنا عليها رجل وامرأة، فسألاه عن ثمن إحدى الساعات فقال لهما الثمن فاستغلياها، وأخذا يفاصلانه مدة طويلة حتى رضخ وباعها لهما بربع الثمن الأساسي تقريباً.

وقبل أن يذهب البائع وإذا بصديقي (النابغة) ينادي عليه ويطلب منه شراء ساعة مثلها بنفس السعر الذي باعها لهما، وإذا بالبائع (الأنبغ من النابغة) يقول له: آسف يا سيدي يجب أن تبدأ المساومة من جديد، حاول معه قائلا: يا شيخ (عدّل بدّل) ولكن رأسه وألف سيف قائلا: لازم تكاسر وتفاصل وتساوم وبعدين ممكن أبيعك.

عندها رفض صديقي أن يساوم ورفض البائع الأفريقي أن يبيع.

[email protected]