وانت إذا انهزموا أول

TT

في القرن التاسع عشر كان الأسطول البريطاني يجوب بحار القارات الخمس مؤدباً من يتمرد، قاصفاً من يحاول منافسته، فارضاً سلطة الإسترليني على فقراء العالم ومداعباً ريق أغنيائه. أرجو أن تعذروا ضعف الذاكرة. فقد حدث مرة أن أراد الكولومبيون (على ما اذكر) أن يوجهوا إهانة إلى بريطانيا، فوضعوا القنصل البريطاني على ظهر حمار وداروا به في شوارع مدينة لا تطالها المدفعية البريطانية. وهكذا لم ينج القنصل من العرض الحماري فيما نجت المدينة من غضب أسطول الأساطيل.

منتظر الزيدي اختار طريقة للتعبير لا تقتل الهدف ولا تقتل الهداف. وإذ قال جورج بوش إن رمية الحذاءين دليل على ثقافة الحرية التي نشرتها أميركا في العراق، فاته أن الأحذية ليست وجهاً من وجوه الحرية. ونحن في المشرق نسمي النعل «الشدّة». والشدة في اللغة تقوم في الإدغام مقام حرفين للتوكيد والتشديد على أمر ما، وقد أساء الزيدي إلى التعبير باستخدام الشدتين معاً، بعكس رفيقه المتقدم في الحزب الشيوعي، نيكيتا خروشوف، الذي عبر عن غضبه من سياسات أميركا باستخدام فردة واحدة من فردتي الحذاء. وكانت مثقوبة على ما روى الرواة والمؤرخون الذين سينصرفون الآن إلى دراسة الظاهرة القندرية في القضايا الدولية. صدام حسين اكتفى بالشعر في هجاء بوش الابن بعدما كان قد «مسح الأرض» كما يقول التعبير العامي بصورة بوش الأب. ولم يكن يعوز الزيدي شعرا في الهجاء من مواطنه دعبل:

ونلصق مصرُ بك المخزياتِ

وتبصق في وجهك الموصل

وعاديت قوما فما ضرهم

وشرفت قوماً فلم ينبلوا

شعارك عند الحروب النجاء

وصاحبك الاخور الافشل

فأنت إذا ما التقوا آخر،

وأنت إذا انهزموا أول

وقد أرفق المراسل التلفزيوني الرمية القندرية بشتيمة الرئيس الأميركي المحتفل بالانتصار الديمقراطي في العراق. وأفسد الاحتفال بذلك على الجميع. وغابت باقات الورود عن اللقاء بفعل التقتير: فلا نفط مقابل الورد. وأما الشعوب العربية فكانت تهزج في العواصم بالانتصار الذي حققه لها منتظر الزيدي في وجه الاحتلال الأميركي: قندرتان لا قندرة واحدة. أي مأساة أن يكون هذا هو الطريق الوحيد إلى النصر.

لكن الأمم المفتتة والمنكوبة لا يبقى لها سوى الصرخة، تحولها إلى انتصار. وجرأة الزيدي تنقض جبن المهزومين والخانعين والمواكب الطويلة المتسابقة إلى عتبة ما.