طريق المجد

TT

كنت أراقب على التلفزيون البريطاني حكاية الليدي تشرشل، والدة ونستن تشرشل، لفتت نظري فيها هذه الظاهرة الجديرة بالمقارنة. نحن نستعمل المحسوبيات والنفوذ العائلي في عالمنا العربي لضمان حياة رغيدة سهلة لأولادنا في مناصب وفيرة ترفة. إذا كان الولد ضابطا فنستعمل نفوذنا لتعيينه في مكان قريب من العاصمة وبعيدا عن الحرب والقتال والمخاطر. نضمن له السلامة والراحة والمتعة. كذا فعل صدام حسين مع أولاده فلم يعرفوا كيف يدبرون أمرهم عندما سقط.

في العالم الغربي، الأرستقراطية تفرض على الأولاد تحمل المشقات والمتاعب والتضحيات والسعي الجاد استعدادا لتولي المسؤولية والقيادة. المدارس الخاصة عندهم محنة وامتحان.

عندما تخرج ونستن من الكلية الحربية، كانت بريطانيا تخوض حربا دامية شمال الهند ضد قبائل الأفغان. ما أن سمع الضابط الصغير بما كان يجري هناك حتى بادر إلى التوسل بأمه «أن تبذل أي شيء» من أجل إرساله لتلك الجبهة المهلكة. وفعلت ذلك بالضبط وحصلت على ما تريد لابنها. وهناك راح يقاتل ببسالة نادرة ويزج نفسه في أهول المواقف حتى راح زملاؤه يصفونه بالمغامر الأهوج. وكانت سمعة قد التصقت به طيلة حياته. بيد أنه حصل على ما يريد من سجل مجيد ورددت أنباء شجاعاته الصحف والأوساط العامة.

عاد إلى لندن فسمع بالحملة البريطانية على السودان، وعاد للتوسل بأمه: «ابذلي أي شيء ليبعثوا بي إلى هناك». ركبت الباخرة لمصر وهناك التقت بالقائد البريطاني في القاهرة وبذلت معه كل شيء ليزج ابنها في حمأة القتال. ونالت ما طلب منها ونستن. وتكررت التجربة في أفريقيا الجنوبية حيث اقتحم خطوط القتال الأمامية ضد العصاة البوير. وفي كل جبهة تكلل رأسه بالأفعال الخارقة والمغامرات الدامية. راح يتسلق قمم المجد بأفعاله بين القوات البريطانية حتى إذا نشبت الحرب العظمى لم يجد لويد جورج بدا من إسناد وزارة البحرية له.

وأخيرا دقت الأجراس له باندلاع الحرب العالمية الثانية. لم يجد الإنجليز رجلا يعتز بمثل ذلك السجل من التجارب القتالية وشؤون الحرب غير ونستن تشرشل.

تابعت كل ذلك وقلت لنفسي يا سبحان الله! امرأة أرستقراطية منعمة، تقدم نفسها من أجل زج ابنها في المهالك، ولكنها حصلت لبلدها بطلا عركته حياة الشدائد والتجارب والتضحيات ليكون أهلا لقيادة تلك الإمبراطورية التي لم تغب الشمس عن أرضها. دخل التاريخ ليقف في عداد هانيبال ويوليوس قيصر وخالد بن الوليد ونابليون وكل من عرف الحرب عبر المحن والتجارب وتحديات الموت والهلاك.

ذهبت قبل أيام لزيارة قصر بلانم، القصر الذي ولد فيه ونستن وترعرع، ذهلت وأنا أنظر إلى اللوحات الفنية البارعة التي رسمها وكشف فيها عن جانبه الآخر. لم يكن مجرد جندي، كان أيضا فنانا قديرا. وكذا كان خصمه اللدود هتلر. فقل معي يا للعجب! تلك الحرب الضروس أضرمها وخاضها فنانان. كلا لم أعد أصدق أن السلم يستتب لو أننا سلمنا مقاليدنا بيد الفنانين، وأنا أعرف بذلك!

www.kishtainiat.blogspot.com