باكستان على شفا الانهيار

TT

يتلقى الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما التقارير الاستخباراتية ستة أيام أسبوعياً، وليس هناك من شك أن باكستان على رأس كل تقرير يقع في يديه. وهذا يجعلها على رأس قائمة مناطق الخطر في العالم. فهل ستلحق باكستان بجارتها أفغانستان وقريبتها الصومال لتصبح الدولة الفاشلة (Failed State) الثالثة داخل المنظومة الإسلامية؟

كل المؤشرات تشير إلى جدية هذا الاحتمال. فما يجري في باكستان الآن لم يعد يهدد وحدتها واستقرارها فقط، بل أصبح مصدر تهديد وخطر على جيرانها القريبين والعالم أجمع. وليس الهجوم الأخير على العاصمة الاقتصادية الهندية مومباي سوى مثال آخر على تصاعد حدة هذا الخطر. فحسب تقييم توماس فينغر، رئيس المجلس الوطني للاستخبارات الأميركي تعتبر باكستان «المنطقة الأكثر تحدياً في هذا الكوكب». فباكستان اليوم تشكل منطقة آمنة لمجموعات طالبان المسلحة، والمنظمات الإرهابية مثل «القاعدة»، وتديرها حكومة مهترئة وغير فاعلة، تمتلك ترسانة عسكرية نووية، ويحتفظ جيشها وأجهزتها الاستخباراتية بعلاقات عسكرية مشبوهة مع منظمات إرهابية، ولا ننسى موقعها الاستراتيجي في المنطقة. فباكستان، وخاصة مناطقها القبلية، تحولت إلى مراكز التخطيط والتدريب لأعمال إرهابية عبر العالم. وبهذا فقد أصبحت اليوم بحق المنطقة الأخطر في العالم وتجاوزت بذلك منطقة الشرق الأوسط التي عُرفت بهذا الوصف عبر عقود.

تصريح آصف زارداري، الرئيس باكستاني، الذي قال فيه إن «الهجوم على مومباي أضر بباكستان وحكومتها وديمقراطيتها وجهودها لتحقيق السلام مع الهند»، يشير إلى أول إدراك رسمي معلن لعمق آثار هذا الهجوم على الداخل باكستاني ومدى تجذر حالة التأزم في وضع البلاد ومع جيرانها. فجماعة لشكار طيبة (عسكر طيبة) التي تشير أصابع الاتهام إلى مسؤوليتها على هجومات مومباي، ليست سوى صنيعة جهاز المخابرات باكستانية (آي إس آي) التي أسستها لتكون أداة لحرب الهند في كشمير. كما لم تكن حركة طالبان الأفغانية وباكستانية، التي تعصف عملياتها اليومية بالداخل باكستاني والجوار الأفغاني، سوى منتوج لذلك الجهاز أيضاً.

استراتيجية الهاجس الأمني التي اعتمدتها باكستان منذ نشأتها في علاقتها تجاه جارتها الهند، ومحاولتها لضم كشمير وجعل أفغانستان منطقة نفوذها المباشر، كل ذلك جعل إسلام آباد رهينة المؤسسات العسكرية والاستخباراتية حصراً، وأدت إلى ضمور مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.

باكستان بتاريخها لم تكن يوما بلدا طبيعيا مستقرا بالمعنى التقليدي. فما بين ولادتها غير الطبيعية وانفصال بنغلاديش عنها بعد حربها مع الهند، لم تعش يوماً مرحلة بناء الدولة، بل كان ولا يزال هاجسها الأكبر هو الاستعداد المستمر للحرب القادمة مع الهند، ونتيجة لضعفها فقد عملت على إضعاف وخلخلة أمن واستقرار جارتها أفغانستان حتى لا تصل مرحلة من القوة تبدأ فيها بالمطالبة المناطق الشمالية الغربية ومناطق القبائل التي تعود ملكيتها لأفغانستان التي فقدتها عبر الاتفاقية الأفغانية ـ البريطانية عام 1893 لمدة 100 عام والتي انتهت عام 1993. القانون الدولي والمعاهدة تقتضي عودة تلك المناطق لكابول. وهذا يفسر حالة التأزم المستمر بين البلدين واستمرار باكستان في دعم حالة اللااستقرار لجارتها.

وهو يفسر أيضاً الإهمال الفاضح من قبل باكستان لتلك المناطق وتحولها إلى أعشاش للتطرف والإرهاب وتجارة المخدرات. فالفقر والأمية والطبيعة الوعرة وغياب الأمن وقيام الحكومة باكستانية الفيدرالية بتسليم الإدارات المحلية للشيوخ المحليين والملالي وزعماء القبائل، كل ذلك عجّل بهذا الوضع المؤلم والخطير في نفس الوقت.

إن باكستان تقف اليوم أمام مفترق طرق حقيقي. فالسياسات والاستراتيجيات والاختيارات السابقة والحالية لم تعد تجدي، وأسلوب الإدارة الدائمة للأزمات، من دون مواجهتها وحلحلتها، لن يؤدي إلا إلى تفاقمها وتحطيم الهياكل القليلة الباقية التي تقوم عليها الدولة، وهو في الحقيقة ما يريده المتشددون باكستانيون وحلفاؤهم من الإرهابيين العالميين. وهو أيضاً ما يعتبر سيناريو «يوم الدمار» كما يصفه المحللون، فوقوع الأسلحة النووية باكستانية بين أيدي المتشددين والإرهابيين هو آخر ما يريده العالم. لهذا فإن ذلك الجزء من الاستراتيجية باكستانية، على الأقل، يجب أن يتغير.

إن هجوم مومباي يشكل نقلة نوعية في استراتيجية الإرهابيين وحلفائهم المتشددين، إذ يعتبر محاولة لإشعال فتيل صدام عسكري مباشر بين الهند وباكستان وتصعيد حالة التوتر في المنطقة، ومن ثم صرف النظر عن نشاطاتهم العسكرية والميدانية في باكستان وأفغانستان. وكلما انشغلت الحكومة بالهند تقلصت قدرتها على مواجهة المجموعات التي تعشش داخل أراضيها. وهو يعني أيضا نقل قوات من الغرب إلى الشرق مما يطلق أيدي تلك المجموعات. وكلما استمر استنزاف الدولة باكستانية ازداد ضعفها واقترب يوم سقوطها وتحول باكستان إلى دولة فاشلة بكل ما تعنيه الكلمة، وهذا يعني استيلاء المنظمات الإرهابية وحلفائها على أوصالها و«التمعش» عليها كما فعلت «القاعدة» من قبل في أفغانستان وتفعل حالياً في مناطق وزيرستان ومناطق القبائل. وكما تفعل المجموعات المسلحة ببقايا الدولة الصومالية المتفسخة.

إن باكستان في حاجة ماسة إلى اختيار طريق يختلف عن الطريق الذي سلكته منذ نشأتها عام 1947. فهي اليوم لا يمكن مقارنتها بالهند التي انفصلت عنها لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا عسكرياً ولا ديموقراطياً. كما لا يمكن مقارنتها بدولة إسرائيل التي تشترك معها في عيد الميلاد. فلماذا تقدم هؤلاء وتخلفت باكستان؟ هل باكستان حقيقة في حاجة إلى كشمير؟ وهل هي حقيقة في حاجة إلى المناطق الأفغانية؟ أليست باكستان أصغر حجماً وأكثر أماناً وتطوراً واستقراراً ورفاهاً، وأفضل مئة مرة من دولة ممتدة الأطراف مهترئة الكيان فقيرة السكان وعديمة الأمان يحكمها العسكر والمخابرات وتعشش فيها كل أنواع الجماعات الإرهابية وعصابات المخدرات؟ فلتتخل باكستان عن كشمير من طرف واحد ولتجعلها مشكلة هندية ـ كشميرية وليس هندية ـ باكستانية ولنر ما يحدث، ولتتوقف عن زعزعة استقرار أفغانستان لتأمن حدودها.

إن العامل المشترك في هذه المنطقة العاصفة بالمشاكل هي باكستان، واستقرارها سيؤدي إلى استقرار ما حولها وليس العكس. فهل سيعي الباكستانيون خطورة المرحلة وآثارها العالمية؟ أرجو ذلك قبل فوات الأوان، فأنصاف الحلول ليست سوى جزء من المشكلة.

* كاتب أميركي من أصل ليبي