يوم الحج الأكبر.. ويوم حماس الأعظم!

TT

قال إسماعيل هنية رئيس وزراء حكومة حماس بغزة، إنّ الفلسطينيين الذين حُرموا من شهود يوم الحج الأكبر، كان جزاؤهم شهودَ يوم حماس، وهو لا يقلُّ عن الحج أجراً، لأنّ الجهادَ في سبيل الله أهمُّ من الحج!

والواقع أنّ الواقعين في قبضة حماس من أهل فلسطين فوّتوا ومنذ مدة الأمرين: أداء فريضة الحج، وأداء فريضة الجهاد. فبالنسبة لفريضة الحجّ، حاولت حماس الحصول على شيء من الشرعية من جانب مصر، ومن جانب المملكة، من طريق إرسال الحجاج ببطاقات منها دونما جوازات من السلطة الفلسطينية، وكان المراد بذلك كما سبق القول: الحصول على الاعتراف وإحراج مصر والسعودية. وسارعت السلطة الفلسطينية للاعتراف بكلّ حجاج حماس، وهيأت للمساعدة على استقبالهم من الجهة المصرية، لكنّ حماساً كان قد استجدّ لديها هدف آخر يتمثل في مهاجمة مصر والسعودية، بالإضافة للتشكيك في إيمان وإسلام السلطة الفلسطينية. وما صحّت حساباتُها هذه المرَّة، فمصر والسعودية أَوضحتا أنه لا عائق من جانبهما، وإنما هي حماس التي أرادت فجأة إظهار خلافها مع مصر ومع السعودية، وبدوافع ما عادت خافيةً على أحد. وتنحصر تلك الاهداف بالاستجابة لإيران، وتنفيذ أوامرها بعرقلة مفاوضات الوحدة بين الفلسطينيين، ومعارضة مبادرة السلام العربية، والوقوف في وجه إمكانيات التسوية، لا لأنّ حماس تملكُ إمكانيات ونهجا مختلفا؛ بلا لأنَّ إيران (وليس سورية هذه المرة، لكنه نفس السلوك السوري تجاه القضية الفلسطنيية لأكثر من أربعين عاماً) التي احتجزت جزءا من الورقة الفلسطينية، تريد أن تعرضها على طاولة التفاوض مع إدارة أوباما، إلى جانب أوراقها الأُخرى، ولذلك تريد التأخير إلى الخريف القادم لاستجلاء ما جرى ويجري بالعراق ولبنان وأقغانستان.. والملفّ النووي.

وهكذا فإنّ حماساً ـ التي ظهرت في الأساس لاستعادة السلطة إلى الإسلام ودولته، عطّلت الحجَّ لأسباب سياسية بحتة تتعلق بردّ الجميل لإيران التي دعمتْها وما تزال تدعمها لتمكينها من الاستمرار في تقسيم الفلسطينيين أرضاً وشعباً ومؤسسات ونضالا. وليس هذا فقط. بل إنّ حماسا فوّتت أيضا فريضةَ الجهاد. فالأرض التي تحررت بمساعي مقاتليها ومقاتلي التنظيمات الأخرى، أصرَّت هي وحلفاؤها على إضاعتها أو الانفراد بها متذرعةً لذلك بإطلاق صواريخ القسّام التي لا تُسمن ولا تُعني من الجوع، وانتهى الأمر بحصار غزة، ثم استيلاء حماس عليها، ثم اشتراع التهدئة مع إسرائيل. وعندما يقول هنية الآن إنّ الفلسطينيين بغزة يجاهدون، يقول عكس الواقع والحقيقة. فهم لا يتمكنون من فعل شيء باستثناء استصراخ إنسانية العالم وإسرائيل للسماح بإدخال الطعام إليهم. ولا ثمن أو مقابل لحالة التي وصلوا إليها باستثناء الاستمتاع بسيطرة قوات الأمن الحماسي عليهم، والتي سبق لها أن رمت بعضهم من فوق البنايات، وقتلت البعض الآخر بالرصاص، للإرغام على الخضوع والتسليم بما لم يسلِّم به هؤلاء الناس لإسرائيل قبل!

ما عِلّةُ ذلك وما سببُه؟ سبق لحماس في الشهر الماضي أن ذهبت للقاهرة للتفاوض النهائي مع فتح وبقية الفصائل الفلسطينية. ثم توقفت فجأة عن التفاوض قبل البدء تقريباً بحجة ضرورة إطلاق سراح معتقليها لدى السلطة. ووقتَها بالذات بدأْنا نسمع من طهران أنّ شروط التسوية غير ناضجة، والمسلمون بقيادة طهران سائرون نحو انتصارٍ محتّم؛ ولذا لا بد من الانتظار بعض الوقت، بحيث تتمكن حماس من الاستيلاء على الضفة الغربية، ثم يأتي الانتصار الكبير على إسرائيل والمتمثّل بزوالها، بحسب ما تنبأَ به الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قبل مدة، ثم كرره عشرات المرات قبل الانصراف أخيراً للإعداد لمعركة رئاسته في الانتخابات القريبة القادمة!

في الحالتين، حالة المصالحة بين الفلسطينيين، والذهاب إلى الحج، تدخلت إيران، لكي تندفع حماس في الرفض وادّعاء الثورية والجهاد كالعادة. ثم لم تصبر إيران، فمدَّتْ رأْسَها؛ في الحالة الأولى بتصريحات وسائل الإعلام بأنّ حماساً ينبغي أن تسيطر على الضفة الغربية وتُزيل الآخرين من الوجود، كما فعلت في غزة. وفي الحالة الثانية، باندلاع، نعم اندلاع تظاهرات بطهران، تارة للاعتراض على السعودية في الحج، وطوراً لاتهام مصر بإقفال معبر رفح في وجه الفلسطينيين المحاصرين!

فلدينا الآن واقعان وحقيقتان، إذا صحَّ التعبير. واقع أنّ العرب يدخلون في التسوية على المستوى الرسمي، ويرون في ذلك الفرصة الأخيرة للحصول على دولة للفلسطينيين، ومنع الحرب والفوضى. وواقع أن ّالدول الكبرى وإسرائيل تتجه إلى اعتبار المبادرة العربية قاعدةً مناسبةً للتفاوض، وضرورة السرعة فيها. أما الحقيقتان فهما أنّ طهران هي المُعارض الوحيد للتسوية في المنطقة أو للمفاوضات باتّجاهها، وأن التنظيمات الثورية العربية والإسلامية تعمل جميعاً الآن وبتنسيق أو بدون تنسيق لإنفاذ رغبات إيران. ويتجه منطق التطورات الثورية هذه ليس باتّجاه اندفاع الثوريين في قتال إسرائيل، بل باتّجاه التحول إلى انشقاقات ترتد إلى الداخل فتُمعن فيه ذبحا وتقتيلا للسيطرة عليه أو للانتقام من «الخونة» أو الأمرين معاً.

ولا شك أن هذه الوقائع والحقائق تبعث على القلق ولجهتين: لجهة استمرار الانقسام الرسمي العربي، ولجهة سياسات إيران العربية والإسلامية. فمن الجهة العربية؛ في حين يريد الجميع السلام العادل والشامل، ليس هناك تواصل أو تنسيق بين سورية من جهة، والعرب الكبار مصر والسعودية من جهة ثانية. ولذلك سببان: استمرار النظام السوري في العمل على الخطوط القديمة، أي تشجيع الانقسامات أو إثارتها، ثم محاولة استخدامها للتفاوض مع الغرب، والسبب الآخَر إيثار الانفراد بالتفاوض مع إسرائيل ولو من خلال تركيا. أمّا السياسات الإيرانيةُ فقد جاءت مخيِّبةً بالفعل، وليس فقط بالامتداد في قلب العالم العربي على نفس الخطوط التي تمددتْ عليها الولايات المتحدة؛ بل وبمنطق الانقسام داخل العالم الإسلامي. فمنذ العام 1987/1988 عندما حدثت مشكلات في الحج نتيجة تصرفات الحجاج الإيرانيين، توقفت الجمهوريةُ الإسلاميةُ عن استخدام التمايز المذهبي في سياساتها. وكان هذا مفهوماً، لأنّ الذي يريد المنافسة على المرجعية والزعامة في العالم الإسلامي لا يستطيع اعتناق سياسات مذهبية أو أقلوية. أما الآن، وأما بعد غزو بيروت في 7 أيار(مايو) من هذا العام؛ فإنّ العودة لاستعمال التمايُز المذهبي، ومسألة حماس، ومسألة الحج؛ كُلُّ ذلك يدعو للتأمُّل. ولست أدري إذا كانت تلك نرفزة بسبب المشكلات التي يُعاني منها نجاد ويعاني منها النظام في الأزمة المالية العالمية وانخفاض أسعار البترول؛ أم لأنّ سياسات «القلّة» أكثر راحةً، وتستجيب لها الغرائز باندفاع، وتجلب نتائج أسرع.

على أنّ النتائج بالنسبة للعرب ليست حسنةً ولا إيجابية. فإيران تعمل على تسلُّم ملف الحرب بالمنطقة، وترجو من ورائه فائدةً لها تتمثل في إقبال الولايات المتحدة على التفاوُض معها. وتركيا عملت وتعمل على تسلُّم ملفّ السِلْم بالمنطقة. فقد توسطت بين سورية وإسرائيل، وهي تعرض الآن توسطاً بين إيران والولايات المتحدة، وإيران وإسرائيل. وكما سبق القول، فإنّ لذلك علّةً واضحةً هي السياسات السورية، وتبعية التنظيمات الثورية الإسلامية لطهران.

وبين هذا وذاك لا تضيع حماس بتبعيتها فريضة الحج فقط؛ بل فريضة «جهاد البناء» أيضاً، وسواءٌ تمَّ ذلك بوعيٍ منها أو خِطّة، أو بالتداعيات التي صنعتْها الظروف التي أَدخلت نفسَها فيها.

لقد كنا نأخذ على عرفات حديثه الكثير عن استقلالية القرار الفلسطيني. وقد تبين لنا فيما بعد كَم كانت السياسات السورية والعراقية والقذّافية مضرة بالقضية الفلسطينية. أمّا اليوم فإنّ بقاء القضية نفسها رهن بالقدرة على تجاوز الاستقطاب، وتجاوز التبعية. والله غالب على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.