فلسطين: تجريد القضية من أهواء الزعامات المتناحرة

TT

مسكينة جدا هي القضية الفلسطينية.. فمنذ أن كانت وهي تتعرض لمسلسل ـ لا آخر له ـ من المتاجرة والمزايدة والاستغلال.

بعيْد احتلال فلسطين: ارتجت المنطقة بانقلابات عسكرية ـ انبنت عليها أنظمة سياسية ـ، وكان المسوِّغ الأعظم لهذه الانقلابات أو الثورات «!!!» هو: نصرة فلسطين وتحريرها، وغسل العار الذي جلبته على الأمة (الأنظمة السابقة)!! من خلال تفريطها أو خيانتها للقضية الفلسطينية عسكريا وسياسيا!.

ماذا كانت النتيجة؟ النتيجة هزيمة القضية عسكريا وسياسيا، والنتيجة هزيمة الأمة كلها عبر احتلال صهيوني جديد لأراض عربية جديدة، ولعل هذا كله يهون ـ وهو غير هيِّن ـ من جهة انه (استغلال غير فلسطيني) للقضية الفلسطينية: يهون بالقياس الى التلاعب الفلسطيني نفسه بالقضية أو بإدارتها على نحو يفتقر ـ إلى درجة المجاعة ـ : إلى العقلانية والحكمة والحسابات السياسية العبقرية أو الذكية أو الصحيحة: سواء في دائرة الجمع أو الطرح أو الضرب أو القسمة.. لقد كتبنا من قبل ـ في هذا المكان ـ وقلنا: إن الاحتلال الصهيوني لفلسطين هو (جريمة القرن العشرين) ـ بالمعنى القانوني والأخلاقي والسياسي للتعبير ـ فهي جريمة لأنها احتلال لأرض الغير بالقوة ـ وهذا ما أبطله ميثاق الأمم المتحدة مثلا ـ وهي جريمة لأنها شردت شعبا كاملا من أرضه وحرمته من بيوته ومصانعه ومزارعه وبيئته الطبيعية التاريخية.. وهي جريمة لأنها لا تزال مستمرة حتى اليوم.. هذا كله صحيح وموثق بـ (الكيد الدولي)، وبالدم الفلسطيني والبؤس الفلسطيني الذي لا نظير له في عصرنا وعالمنا، فلكل شعب في عصرنا وعالمنا (أرض ودولة ووطن).. والاستثناء الوحيد هو: الشعب الفلسطيني.. نعم.. نعم.. هذه هي المأساة الكبرى، ولكنها على ظلمها وقبحها تهون «!!!!!!» إلى جانب (التدمير الذاتي) الذي يتبادله الفلسطينيون، بل يتبادله ـ بالتحديد والضبط ـ: أكبر حركتين فلسطينيتين كفاحيتين هما حركتا فتح وحماس. فالكراهية التي يتوجب ان تنصب على المحتل ـ بسبب ظلمه ـ، استدارت بغباوة ـ لتنصب على الذات، وبكميات هائلة تحتاج الى دراسة علمية نفسية واجتماعية وسياسية وحضارية: ابتغاء تعليلها وتفسيرها.. ولمزيد من اشباع هذا المفهوم: (مفهوم ان تدمير الذات أخطر على الذات من مكايد العدو)، ينبغي تسجيل سطور في تأصيل هذا المفهوم: علميا وفكريا وسياسيا. أ ـ فقد أرسى العلم الكوني حقيقة راسخة تقول: «ان كل قوة في هذا الوجود لا يمكن أن تؤدي عملها إلا اذا وجدت جهازا قابلا».. ولا ريب ان تصدع الصف الفلسطيني هو (الجهاز القابل) لمخططات عدوهم.. ولا قيمة ـ عندئذ ـ للاجتهادات السياسية الجزئية التي يتعلل بها هذا الفريق أو ذاك في استدامة جنون (تبادل التدمير الذاتي). ب ـ هذه النقطة تفضي الى التأصيل الاستراتيجي والأمني للمفهوم الذي معنا، وهو تأصيل يستند الى (الإدراك العالي والناجز) لمخططات الأعداء في اختراق الجبهات الداخلية وتفتيتها. ولقد نشرت جريدة (هاآرتس) الإسرائيلية تقريرا موثقا قالت فيه: «إن الموساد صمم خطة هدفها تمزيق الوطن العربي باضطرابات داخلية في كل بلد عربي، وبث الخلاف والصراع بين الدول العربية. ولقد اقتنعت الحكومة الاسرائيلية بهذه الخطة واعتمدتها منذ عام 2000».. ومما لا شك فيه: ان نصيب الفلسطينيين من خطة التفتيت هذه هو أكبر نصيب.. لماذا؟.. لأن الفلسطينيين هم الدائرة الأقرب والأخطر في خريطة (ترتيب العداوات) بالنسبة لإسرائيل.. ومما يحول العجب إلى ذهول: ان هؤلاء المتصارعين ـ في الضفة والقطاع ـ انما يتصارعون فوق ضفة (محتلة). وفوق قطاع (محتل). أي انهم يتصارعون فوق أرض لم تتحرر!!. وهو وضع مخجل جدا: لمن يملك شعورا بالخجل من السلوك المخزي!

في ظل هذا السلوك المخزي الأبله الأناني: توحش المستوطنون في الضفة، وافترسوا الناس والأرض والبيوت والمزارع والدكاكين (والغريب المريب ان مجلس الأمن لم يشعر بهذه المظالم وهو يصدر قراره الأخير الداعي للسلام)!

وفي ظل هذا السلوك المخزي اشتد ـ إلى حد الخنق ـ الحصار حول غزة المكلومة: ماديا ومعنويا.

والسؤال ـ ها هنا ـ: ما العمل؟.. ما الموقف؟.. ما الرأي السياسي؟

الجواب المجمل على هذه الأسئلة كلها هو (تجريد القضية الفلسطينية من أهواء الزعامات الفلسطينية المتناحرة). فهذا التجريد يقتضيه مقياس الحق والعدل، بمعنى النظر إلى هذه القضية نظرة حق وعدل مجردة من أهواء فتح وحماس، ومن منافستهما الحزبية.. ونظرة حق وعدل مجردة من أهواء الذين يتاجرون بالقضية من غير الفلسطينيين في منطقتنا هذه.. ونظرة حق وعدل مجردة من أكاذيب اسرائيل ومراوغاتها وخداعها وقتلها للسلام ـ عمليا وتطبيقيا ـ على حين تلوح به وتتاجر سياسيا وإعلاميا!.

ان مقياس الحق والعدل واجب الإعمال والالتزام للأسباب التالية:

أولا: انه مقياس غير مختلف عليه ـ من حيث المبدأ ـ، وإلا فلا معنى ـ قط ـ لوجود مواثيق وقوانين دولية، ولا قيمة لوجود محاكم وقضاة ـ على الصعيدين العالمي والوطني ـ فإن كل هذه القوانين والمؤسسات ترتكز على مبدئية الحق والعدل.

ثانيا: ان الدلائل والوقائع تشير كلها الى ان اسرائيل دولة ظالمة منذ قامت والى اليوم.. ومن يشك في ذلك فليسأل نفسه: هل توحُّش المستوطنين في الضفة: عدل أو ظلم.. هل حصار غزة وتجويع أهلها: عدل أو ظلم، فإن كان عقله وضميره أفتياه بأن هذا عدل، فلينضم ـ صراحة ـ إلى اسرائيل في ظلمها وليمتدحها على ذلك!، لكنه لن يستطيع ان يفعل ذلك حتى يتجرد ـ قبلا ـ من إنسانيته وضميره ورشده.. وان كان عقله وضميره أفتياه بأن ما تفعله اسرائيل إنما هو عين الظلم، فليفتح فمه بذلك، وليصدع بالحق: مجرِّدا القضية من الأهواء السياسية التي تكتنفها وتعصف بها عصفا منكرا مدمرا.

إن نصرة المظلوم ينبغي أن تجرد من كل اعتبار عنصري أو ديني، ومن كل هوى سياسي أو حزبي.. وبهذا الميزان الحق: انتصر أقوام: غير فلسطينيين وغير عرب وغير مسلمين للقضية الفلسطينية وشعبها.. ومن هؤلاء ـ مثلا ـ الإسرائيلي يوري افنيري الذي قال:«ان الفلسطينيين يملكون كل الحق في الاستقلال التام مثل ـ شعب التبت ـ مثلا ـ ومن ينكر ذلك منطقه معوج بلا شك. والمضحك أن الاعلام العالمي الذي يذرف الدمع من اجل شعب التبت الذي استولى الصينيون على أرضه، لا يقف نفس الموقف مع الشعب الفلسطيني الذي استولينا نحن الاسرائيليين على أرضه».

ومن هؤلاء الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الذي قال ـ في كتابه: فلسطين: السلام لا التمييز العنصري ـ: «ان الجدار الذي أقامته اسرائيل في قلب الأرض الفلسطينية هو جدار عنصري ضد المسلمين والمسيحيين جميعا، جدار عنصري يلتهم الأرض الفلسطينية ويمزق الكيان الفلسطيني الجغرافي شر تمزيق، وهو سلوك ينتهك مبادئ العدل الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، وأحكام محكمة العدل الدولية».

ثالثا: ان الزعامات الفلسطينية المتناحرة ـ والتي أنزلت أفدح الأضرار بالقضية ـ هي زعامات ذاهبة بالتوكيد.. أما القضية والشعب فهما أثبت وأبقى من هذه الزعامات.. لقد ذهب الشقيري وعرفات، وصلاح خلف، وابراهيم الوزير، وأحمد ياسين، وبقيت القضية، وسيذهب محمود عباس وخالد مشعل وأمثالهما وسيبقى الشعب والقضية.. وبمقياس الحق والعدل لا يجوز مجاملة أي زعامة فلسطينية ذاهبة، على حساب الحق الأثبت، والعدل الأبقى، والشعب الأطول استمرارا في المستقبل، فالشعب الفلسطيني لا ينبغي أن يعاقب بالسلوك النزق لقادته.. ونختم المقال بجمل عن (التهدئة) ومصيرها، والرأي ـ هنا ـ هو تحكيم المصلحة العليا في الموقف، وهي مصلحة تقول باستمرار التهدئة.. نعم. هناك أضرار في التهدئة لأن اسرائيل لا تكف عن العدوان، بيد أنها أضرار أخف مفسدة من أضرار فتح الباب أمام المجهول، وأمام عدوانات صهيونية أوسع وأفدح.