القيم سبيل نجاح العولمة.. والعقيدة يجب أن تؤدي دورها

TT

تجمع ضغوط العولمة بين البشر، حيث تزيل الحدود عبر التبادل التجاري والسفر والاتصالات والهجرات الجماعية. وإذا كان الاعتقاد الديني في مثل ذلك العالم المترابط، يعمل على تفريق البشر، فقد يصبح قوة للخلاف والصراع. وهذا سيئ للجميع. ولكن النتيجة سيئة على وجه الخصوص بالنسبة لأصحاب العقيدة الدينية. ويعني ذلك أن مفهوم العقيدة لم يعد مرادفا للمصالحة والتعاطف والعدل ـ وهو الأمر المفترض الذي يجب أن يكون عليه الدين ـ ولكنه أصبح مرادفا للكراهية والنزعة الطائفية.

ولدي اقتناع عميق بأهمية هذه القضية التي درستها، طوال الأشهر القليلة الماضية، من أجل إقامة حلقة دراسية في جامعة ييل الأميركية لمناقشة الموضوع. وقد قمت بذلك، ليس كنشاط فكري، ولكن لأنني أعتقد أنه أمر مفيد للغاية. وإذا لم نجد طريقة للتوفيق بين العقيدة والعولمة، فسوف يكون العالم عرضة للخطر، بل وستكون العولمة أقل نجاحا في نشر الرخاء.

وقد تعلمت 10 دروس مستفادة من دراستي لذلك الموضوع:

1 ـ الاعتقاد الديني له أهميته. وسواء شئنا أم أبينا، تنبع دوافع مليارات من البشر من العقيدة الدينية.

2 ـ لا ينحسر التدين. ربما يكون في انخفاض في بعض المناطق، ولكن ليس في جميع أنحاء العالم. بل إنه ينمو في بعض الأنحاء.

3 ـ يمكن أن تلعب العقيدة دورا إيجابيا في مساندة ـ على سبيل المثال ـ الأهداف الإنمائية للألفية التابعة للأمم المتحدة، من أجل الحد من الفقر وتحقيق التنمية. وقد بذلت كنائس ومساجد ومؤسسات دينية هندوسية ويهودية جهودا رائعة في هذا المجال. أو يمكن أن يكون للدين دور سلبي يظهر في الحركات الأصولية أو المتطرفة.

4 ـ تشكل العولمة مجتمعات متعددة الأديان. ومثلا تختلف لندن التي ينشأ فيها ولدي الصغير الآن، تماما عن لندن التي كان يمكن أن ينشأ فيها منذ 30 عاما. وينطبق الشيء ذاته على أوروبا والولايات المتحدة أيضا.

5 ـ من أجل العمل بفعالية، تحتاج العولمة إلى ترسيخ قيم؛ مثل الأمانة والثقة والانفتاح والعدل.

6 ـ الاعتقاد الديني ليس هو الوسيلة الوحيدة، ولكنه أهم وسيلة، لتقديم هذه القيم، إذا كان الدين ذاته منفتحا وليس منغلقا؛ وإذا كان معتمدا على التعاطف ومساعدة الآخرين وليس على أساس هوية استبعادية.

7 ـ حتى تزدهر العولمة، نحتاج إلى رأس مال اجتماعي، وهو تبادل الثقة ببعضنا البعض حتى نستطيع أن نثق بالمستقبل. ويعد المصدر الروحاني ـ إن جاز التعبير ـ جزءا مهما من رأس المال الاجتماعي.

8 ـ ولكن في عصر من العولمة والمجتمعات متعددة الأديان، يتطلب إيجاد ذلك المصدر الروحاني التسامح، بل وأيضا احترام أتباع الديانات الأخرى.

9 ـ مفتاح الاحترام هو التفاهم، ولذا تظهر الحاجة إلى أن نتعلم وندرس أديان وعادات بعضنا البعض.

10 ـ يجب أن تساند المنظمات الدينية هذه العملية، وتسمح ـ من خلالها ـ بتطور الاعتقاد الديني، ليتمكن من أن يصبح قوة إيجابية وبناءة وتقدمية.

لذلك، فإن الاعتقاد الديني له أهميته. وللقيم أهميتها كذلك. وتحدد إمكانية الجمع بين الاثنين ـ إلى حد كبير ـ احتمالات النجاح والرخاء والتعايش السلمي في المجتمع الدولي الذي نعيش فيه. والبديل لذلك هو التوتر والصراع والعنف.

ما معنى هذا عمليا؟ كنت أعتقد من قبل أن العولمة عملية خالية من القيم. وبالتأكيد ظننت أن المرء يجب أن يسعى إلى تحقيق العدل في عصر العولمة كهدف في حد ذاته، ولكن ليس من أجل فاعليته. ولكنني بدلت رأيي الآن. وتوضح الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة السبب.

وتعد الأزمة الحالية أول أزمة تنشأ عن سلوك، نرجو أنه لم يكن ليحدث، وهو عدم المسؤولية. وقد طالت مدة الأزمة بسبب غياب الثقة، لأن الناس لم تعد تثق بالنظام. والقيم مثل الثقة في الغير ـ بأن تستطيع أن تعتمد على كلمة شخص آخر ـ أو النظرة بعيدة المدى بدلا من تضخيم الأرباح قصيرة المدى، هي ـ على وجه التحديد ـ التي تحقق الثقة المطلوبة من أجل إعادة وضع اقتصادنا في موقع جيد من أجل المستقبل. وبمعنى آخر، لا يمكن استعادة الثقة والاستقرار النابع منها بوسائل تقنية وتنظيمية فقط، ولكن باستعادة القيم.

هذا نموذج واحد فقط يوضح فكرة أن العالم المترابط، لا يمكن أن يعمل جيدا بدون قيم ترسخ روابط الثقة.

في السياسة الخارجية، يمكن رؤية ذلك المثال على نحو أوضح. تمثل الهجمات العنيفة التي رأيناها في مومباي نوعا من التهديد الأمني الذي نواجهه في أماكن عديدة حول العالم، من العراق إلى أفغانستان، ومن إيران إلى باكستان، وإلى مدننا في الغرب. بالطبع، يجب أن نكون مستعدين لاتخاذ رد فعل عسكري كجزء من مواجهة العنف. ولكن في الحقيقة، فإن قوة الأفكار هي التي ستسمح للعولمة بالنجاح وعدم التفكك وسط الصراع، وليست قوة السلاح.

ويشكل تحقيق السلام بين إسرائيل وفلسطين أهمية كبرى، حيث يمثل تعبيرا رمزيا هائلا يمكنه مواجهة الانقسامات والكراهية التي تؤدي بالأفراد إلى ارتكاب أعمال إرهابية باسم الدين. وإذا استطعنا خلق مساحة يعيش فيها أصحاب الديانات المختلفة، ويعملون معا في سلام، فسوف يكون في ذلك تأكيد قوي على مجموعة مختلفة من القيم الناجحة، بدلا من تلك التي تسببت فقط في عنف لا ينتهي على مدى عقود.

ومن أجل هزيمة قوى الاستبعاد والانقسام التي تؤدي إلى الإرهاب، الذي تصل أيديه إلى جميع أنحاء العالم، يجب أن نتوجه إلى التعليم كمكون أساسي، وليس جهدا ثانويا، في السياسة الخارجية. ونحن نحتاج إلى أن نتعلم عن الأديان وأساليب الحياة الأخرى.

ولذلك، ففي كل من السياسة الاقتصادية والسياسة الخارجية، من الواضح أننا لا نستطيع أن نجعل العالم آمنا من أجل الحفاظ على ترابطه، إلا إذا كانت لدينا قيم قوية ترشدنا. ولا يمكن أن نغرس جذورا للتعايش السلمي، إلا إذا كان لدينا تحالفات قوية ليس فقط بين الدول، ولكن بين الأديان، من خلال القيم المشتركة بيننا.

وسواء كانت القضية هي الأزمة الاقتصادية العالمية، أو انتشار الفقر في أفريقيا أو الاحترار العالمي، يمكن أن تقدم المجتمعات الدينية أساسا صلبا من أجل القيم، وأن تسعى في محاولات متحدة معتمدة على تلك القيم. ولكن هذا لن يتحقق إذا كان الاعتقاد الديني يدور حول عاداتنا وهويتنا، ولكن سيكون حقيقة إذا كان الدين يتعلق بالقيم، وليس فقط قيم الديمقراطية والحرية، بل قيم المصلحة العامة والتعاطف والعدل. وفوق كل ذلك، نحتاج إلى اتحاد من القيم التي تعترف ـ على الرغم من اختلافات العقيدة أو اللون ـ بتساوي منزلة جميع البشر وقيمتهم أمام الله.

*المقال أعد للنشر من حديث أدلى به توني بلير الأسبوع الماضي في جامعة ييل،

حيث كان يلقي محاضرة عن العقيدة والعولمة

* رئيس وزراء بريطانيا السابق ومنشئ مؤسسة توني بلير للعقيدة

* خدمة «غلوبال فيو بوينت» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)