الثالوث العراقي: الديمقراطية.. الكورد وكركوك

TT

أصل المشكلة السياسية في العراق وجذرها هو الدكتاتورية. فإذا انتهت ديكتاتورية القومية الحاكمة، وأشيعت الديمقراطية كنظام للحكم يشترك فيه كل العراقيين عربا وكوردا وتركمانا وكلدوآشوريين، باعتبارهم مواطنين يجمعهم دستور يعترف بالتنوع ويحترمه، ويضمن حقوق الجميع لكل حسب خصوصياته، ولكل حسب حاجاته في الحرية والحياة الكريمة والرفاه، والتمتع بالاستقلالية ضمن اطار دولة العراق الفدرالي، فإن حل كل المشاكل الأخرى، بما فيها المشكلة الكوردية، سوف يرى النور ويضع اولى خطواته على الطريق الصحيح، الذي لا رجعة فيه ويؤدي الى حلول لا رجعة فيها، وانما تتقدم بخطوات ثابتة وواثقة نحو الامام تاركة وراءها زمنا طويلا من الويلات والنزاعات والقتل والدمار.

اتخذ هذا الاصل في المشكلة العراقية عناوين مختلفة في مراحل تطوره المختلفة والمتلاحقة، ولكن بقيت المشكلة الكوردية هي العنوان الاكثر بروزا، وكأنها أصبحت هي الدالة الرمزية لأصل المشكلة العراقية.

ان تحقيق الديمقراطية في العراق مرهون بحل ديمقراطي للقضية الكوردية في العراق، أي أن الديمقراطية لا تستطيع ان تعيش وتنتعش في العراق من دون حل المشكلة الكوردية. إذن العنوان الرئيسي للديمقراطية، هو حل المشكلة الكوردية. بمعنى آخر هناك بناء سياسي غير قابل الى التجزئة وعلاقة جدلية متفاعلة بين الديمقراطية وحل القضية الكوردية في العراق. حتى ان الزعيم الراحل (مصطفى بارزاني) ربط بين هذين المطلبين ربطا لا ينفك. فهو الذي رفع شعار «الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان». اي انه لم يقم فقط بربط ميكانيكي بينهما، وانما ربطهما بشكل جدلي كما سبّق الديمقراطية للعراق من الناحية السياسية على الحكم الذاتي لكوردستان، حتى أصبح هذا الشعار شعار الثورة الكوردية المعروفة بثورة أيلول 1960، كما اصبح شعار الأحزاب الرئيسة الاخرى في كوردستان وعموم العراق وبالأخص الاحزاب التقدمية، وصولا الى مرحلتنا الحالية التي استوجبت تطورا كبيرا نحو الربط بين الديمقراطية والفدرالية، اي توسيع نطاق الحكم الذاتي أو اللامركزية لتشمل كل العراق وليس اقليم كوردستان وحده.

ان القضية الكوردية مثلها مثل الديمقراطية كانت لها عناوين مختلفة في مراحلها المختلفة، ولكن كانت مشكلة كركوك هي الأبرز بين جميع العناوين التي من خلالها يمكن ان نتعرف على المشكلة الكوردية في العراق، حيث لا حل للمشكلة الكوردية من دون حل مشكلة كركوك من خلال الاعتراف بكوردستانية هويتها وانتمائها الطبيعي الى اقليم كوردستان. ان أي حل للقضية الكوردية من دون ربطه بحل مشكلة كركوك لم يعش طويلا ولم يتطور إلا بشكل سلبي ليتحول في نهاية المطاف الى نقمة على الكورد وذريعة اتخذتها الحكومات العراقية لتجديد القتال والعودة الى المربع الأول، ألا وهو مربع الديكتاتورية واغتيال الديمقراطية.

إذا الثالوث العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، كان ولا يزال هو (الديمقراطية والكورد وكركوك)، حيث لا ديمقراطية من دون حل للمشكلة الكوردية، ولا حل للمشكلة الكوردية من دون حل لمشكلة كركوك، إذا لا ديمقراطية من دون حل لمشكلة كركوك، ولا حل لمشكلة كركوك من دون احقاق هويتها الكوردستانية، وهكذا دواليك. من هنا يمكننا القول إن العنوان الاكثر بروزا في العراق، هو في جوهر هذا الثالوث الذي نريده غير محرم.. نريده خارج الخطوط الحمر.. نريده قابلا للنقد والحديث عنه والتفاوض بشأنه وايجاد الحلول التوافقية له.

الأحداث الأخيرة وخاصة التي تتعلق بإقرار المادة 24 في قانون انتخابات مجالس المحافظات (قبل تعديلها) وما تلتها من تطورات كادت أن تقضي على مجمل العملية السياسية والتحالفات والتوافقات في العراق، اضيفت هذه الاحداث الى سجل الاحداث الماضية، لتعكس لنا بالتفصيل التداخل الخطير بين المكونات الثلاثة للثالوث العراقي. ما عدا الذين لا يريدون حلا لأية مشكلة مهما كانت صغيرة او كبيرة أو خطيرة على العراق، ولا يريدون إلا الفشل للعملية السياسية من خلال ضرب الاستقرار، فإن الوسط السياسي العراقي في اعقاب تلك التطورات بدأ يتحرك بسرعة وفي كل الاتجاهات من أجل تعطيل كل المتغيرات التي تؤدي الى الاحتكاك التناقضي والتناحري بين مكونات ذلك الثالوث، ذلك لأنهم يدركون حق الادراك بأن فترة الاستقرار والراحة في العراق مهما طالت فإنها تنتهي في اللحظة التي لا يستطيع ذلك الوسط حل مشكلة الديمقراطية ارتباطا بحل مشكلة الكورد وكركوك.

يمكننا ان نقول إن العملية السياسية في العراق اصبحت على الطريق الصحيح، وان المشاركين فيها عقلاء وفي إمكانهم ادارة الدولة العراقية والوقوف بوجه جميع التحديات المستقبلية، متى ما اقتنع اللاعبون في الساحة السياسية العراقية بألا يجزئوا هذا الثالوث، وان يتعاملوا مع مكوناته الثلاثة على انها وحدة اشكالية واحدة، وان حلها ينبغي ان يكون حلا متكاملا ليشكل عملية شاملة تبدأ أينما كان على ان تستمر لتشمل الكل وإلا لتوقفت في نقطة، وتراجعت حتى يصبح الحل مشكلة بحد ذاته، ويتحول الى قاتل يقتل الذي بدأ منه.

كما يمكننا القول إن العملية السياسية في العراق، سوف ترتقي الى المستوى المطلوب لتقدم للعراق اسباب وحدته وتقدمه وتنميته، متى ما استطاعت الاطراف السياسية المشاركة في العملية السياسية العراقية، وفي مقدمتهم الحكومة الاتحادية، ان ترتفع الى مستوى فهم العلاقة الجدلية بين مكونات الثالوث العراقي والترابط الاشكالي فيما بينها وما يحدث على اثر عدم حل هذه الاشكاليات المتداخلة، أو ما يجنيه الشعب العراقي من ثمرات في حل هذه الاشكاليات.

*كاتب وباحث من كوردستان العراق