الحذاء.. والكرامة

TT

أحد رجال الأعمال العرب عرض مبلغ عشرة ملايين دولار مقابل شراء الحذاء الذي ألقاه صحفي البغدادية على الرئيس بوش، بحسب ما أشار موقع العربية نيت. رجل الأعمال هذا لم تحرضه كل الأحداث الجسام التي شهدها العراق طوال خمسة أعوام كان يمكن ان توحي له بعشرات الأفكار لإنفاق ملايينه العشرة، كان يمكن ان يفكر ببناء عشرة مستشفيات حديثة في مدن العراق او اي بلد عربي يعاني أبناؤه من نقص العناية الطبية، كان يمكنه ان يفتح عشرين مدرسة حديثة في المناطق القروية او المتخلفة في عالمنا العربي، كان يمكنه ان يرعى مشروعا هائلا لترجمة البحوث والدراسات الحديثة الى اللغة العربية التي مازال متحدثوها بمنأى عما وصل اليه العالم من تقدم علمي. لكنه اختار من بين كل الخيارات «تبديد» أمواله لشراء ذلك الحذاء الذي أصبح على حد قوله رمزا لـ«حرية العرب»!

عدد من النقابات الصحفية العربية سارعت بعد سويعات من «حادثة الحذاء» الى استنفار طاقاتها الاستثنائية لـ«اعلان التضامن مع صاحب الحذاء»، اصبح هذا الصحفي في نظرها «بطلا قوميا» لا لأنه كتب تقريرا صحفيا يكشف عن فساد هائل او معلومات مهمة او قصة من شأنها ان تنقذ حياة الملايين، صحفي عجز عن ان يكون «صحفيا» وقال لأصحابه «سأدخل التاريخ» لكنه اختار دخوله حافيا تتبعه جوقة المطبلين بعد ان أفقدت الصحافة مما تبقى لها من قيم مهنية. المشكلة ان هؤلاء النقابيين لم يمتلكوا ذات الحمية والحماس للدفاع عن صحفيين عرب ما زالوا أسرى السجون بسبب كلمة قالوها او مقالة نشروها، أي بسبب قيامهم بعملهم الحقيقي! من جانبه طالب اتحاد المحامين العرب محاكمة «صاحب الحذاء» خارج العراق لينال معاملة عادلة، نفس هذا الاتحاد كان قد التمس من صدام حسين في الثمانينيات العفو عن ابنه عدي الذي كان يقضي عقوبة في «ملاهي وبارات جنيف» لأنه قتل أحد رجال حمايات صدام!

«مثقفون» وكتاب عرب لم يهتموا، ناهيك عن ان يكونوا تضامنوا، مع الصحفي ضرغام هاشم الذي أعدمه النظام السابق في بداية التسعينيات لمقالة أولت بأنها تنتقده، أو بالكاتب عزيز السيد جاسم الذي غيب في السجون لتأليفه كتابا في التاريخ لم يعجب رأس النظام وأجبره بالسجن ان يؤلف بما يخالف كتابه الأول ثم قتله، ولم يعثر على جثتيهما للآن، ولم يجدوا في عذابات العراقيين زمنا طويلا في ظل ديكتاتورية وحشية قل مثيلها، او في مطاولتهم وصبرهم وخروجهم من محنة الحرب الاهلية التي كان الجميع يدفعهم اليها، وفي تحركهم بالملايين لممارسة اول انتخابات «غير مقررة النتائج سلفا» في تاريخ هذا البلد، او في جهودهم لاستعادة سيادتهم واستقلال بلدهم، او في حبهم للحياة بعد كل الموت الذي جاء اليهم من كل حدب وصوب بسيارات مفخخة وعبوات ناسفة وقناصين وهمرات وطائرات، اقول لم يجدوا في كل ذلك قصصا تستحق الاشادة، لكنهم ذهبوا الى تحويل «حادثة الحذاء» الى حدث يستحق تدبيج عشرات المقالات والمدائح، واختصروا «الشعب العراقي» مجددا بصحفي موتور ما كان سيفعل ما فعل لو كانت حياته هي ثمن فعلته، كما هو المصير المتوقع لو كان المكان غير العراق، أو الزمان قبل 2003.

بعض فقراء المدن العراقية وكعادتهم في التفوق على الجميع بإساءة فهم وقراءة الاحداث ومغازيها وفي العجز عن الاحتكام للعقل ولو قليلا، اختاروا ان يتجمعوا في مدنهم البائسة متظاهرين لصالح هذا الصحفي الذي بعد زمن سيجعل قصته مصدرا للتكسب من بيوت وفضائيات الزعيق تاركا اياهم في فقرهم وبؤسهم الذي لم يحركهم مرة للتظاهر طلبا لتحسين الخدمات او لرفع مستواهم المعاشي او لمحاسبة هذا المسؤول الفاشل او ذاك او حتى لمحاسبة من يدعون تمثيلهم في البرلمان، وتقدمهم البعض من الذين يعتاشون على تضليلهم وحرفهم عن معركتهم الحقيقية وعلى تسويق مفهوم للكرامة لا تخدشه المياه الآسنة المتراكمة منذ زمن طويل في أحيائهم المتهالكة، ويغدو رمزهم حذاء رفعوه فوق رؤوسهم وكأنهم حتى في طلبهم للحرية يسترخصون أنفسهم فلا يرونها جديرة برمز اكثر نقاء ورفعة.

أمة ترى في نفسها «خير ما أخرج للناس»، يعمها التخلف حد ان تعجز عن وضع جامعة واحدة من جامعات بلدانها الـ22 ضمن افضل 200 جامعة بالعالم، وحيث لا يقرأ أبناؤها الذين يتجاوز تعدادهم الـ350 مليون نسمة من الكتب ما يعادل ما يقرأه أبناء امة اخرى تعدادها الـ 50 مليونا، أمة هزمت في جميع الحروب التي خاضتها في العصر الحديث، بعضها امام دولة تعداد سكانها ملايين لا تجاوز اصابع الكف الواحدة، وهزمت عندما اختارت السلام فلم تحوله كعدوها الى وسيلة لبناء المؤسسات والارتقاء المدني بل استبدلته غالبا بإعلان حالة «الطوارئ» استعدادا للحرب التي لم ولن تأتي يوما، كبرى مدنها تتآكل وتضمحل في قيمتها الحضارية في الوقت الذي تنفجر ديموغرافيا فتصبح عاجزة عن تحمل تضخمها اللامتعقل إلا عبر فسح المجال للموت كي يأتي بأبشع الطرق وأحيانا بأسخفها. رجال الدين يتصدرون المشاهد والفتاوى تنتج بأكثر مما تنتج البحوث العلمية، والكراهية الدينية والطائفية والعرقية تتسرب بين ظهرانيها وتنتشر كالنار في الهشيم مضيفة عاملا آخر لبؤسها ولموت أبنائها العبثي، مانحة الديماغوجيين وتجار «القضايا» منابر لا يمتلكها المفكرون وعلماء الاجتماع الذين ينسلون رويدا نحو المهاجر باحثين عن فسحة لا تضيق أمام عقول امتهنت التفكير ولا تستطيع العيش بدونه. أمة كهذه اجتمعت كما لم تجتمع من قبل على النظر لحادثة الحذاء كفتح مبين ونصر عظيم وبطولة خارقة، لم يتردد بعض أفرادها عن ربط كرامته، بل وكرامة أمته تلك، بذلك الحذاء الطائر، الذي كشف قبل كل شيء كم نحن حفاة في طريق الحضارة الوعر.