حضر العالم.. وغاب الخليج!

TT

حضر العالم ولم يحضر الخليج، ربما يكون هذا هو العنوان الأبرز لنتائح حوار الأمن الإقليمي الذي عقد في المنامة بمملكة البحرين، في الفترة من الثاني عشر إلى الرابع عشر من هذا الشهر، برعاية المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن. الولايات المتحدة كانت أقوى الدول التي حضرت تمثيلا، حيث شاركت بوزير دفاعها روبرت غيتس الذي طرح تصورا للأمن الإقليمي هو أقرب إلى رؤية رئيسه المقبل باراك أوباما منها إلى رؤية رئيسه الحالي جورج بوش. كذلك شارك الجنرال ديفيد بتريوس المسؤول الأول عن الحزام الأمني الملتهب المعروف بالمنطقة المركزية ((Centcom المترامية من أفغانستان حتى حدود مصر الغربية.

كان المؤتمر السنوي الخامس لأمن الخليج هذا العام مفعما بالقضايا الشديدة الحساسية، تم تناولها من منظورات مختلفة، بريطانية وأميركية وروسية. وللأسف، كانت رؤية الخليج هي الغائبة، باستثناء وجود العراق ممثلا بالدكتور برهم صالح نائب رئيس الوزراء العراقي، والوجود البحريني بالطبع، حيث حضر وزير خارجية دولة البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة ممثلا للدولة المضيفة، إضافة إلى مشاركة الوزير المسؤول عن العلاقات الخارجية في سلطنة عمان السيد يوسف بن علوي، والذي تحدث في واحدة من الجلسات المغلقة. الإمارات حضرت ممثلة بوزير الدولة للشؤون الخارجية والذي لم يتحدث في المؤتمر، فكانت مشاركة إماراتية صامتة.

طرحت في المؤتمر ثلاث قضايا جوهرية وبالغة الحساسية، القضية الأولى بدت كـ(جس نبض) لدول الخليج من قبل الولايات المتحدة، وهي قضية انضمام العراق لمجلس التعاون الخليجي، تلك القضية التي ركز عليها وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس بشدة في كلمته الافتتاحية للمؤتمر. والقضية الثانية، كانت تصورا جديدا للأمن الإقليمي طرحه الجنرال ديفيد بتريوس. أما القضية الثالثة، وهي شديدة الحساسية بالنسبة لدول الخليج والمنطقة العربية عموما، فقد طرحها وزير خارجية دولة البحرين حول تصور البحرين لمنظمة أمن إقليمي تشمل إضافة إلى دول الخليج وبعض الدول العربية مثل مصر والعراق والأردن، إيران وإسرائيل وتركيا. هذه القضايا تمحورت حولها معظم نقاشات المؤتمر، وكذلك الجلسات الجانبية على هامش المؤتمر، كما شغلت الصحافيين والباحثين بالدرجة نفسها تقريبا.

بالطبع، لا يكتمل نقاش قضايا تهم أمن الخليج وبمثل هذه الحساسية في غياب دول خليجية فاعلة كالسعودية وقطر والكويت والإمارات. لقد كان سؤال المؤتمرين الأهم هو: أين الخليج، وأين إيران؟

إيران كانت لديها الرغبة في الحضور. وكانت هناك ترتيبات للقاء إيراني أميركي على هامش المؤتمر، ولكن يبدو أن الطرفين لم يتفقا في النهاية عما يمكن الحديث عنه. فقد كان من المحتمل أن يلتقي رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني مع رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس. وللحظة الأخيرة قبل عشية المؤتمر، كان احتمال حضور لاريجاني لمقابلة أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي المقربين من باراك أوباما، احتمالا قويا. لم يحضر لاريجاني، وبناء عليه لم يحضر نظيره الأميركي، فعلى الأغلب أن (الطبخة) ليست جاهزة بعد. وانتهى الأمر إلى مقاطعة إيرانية للمؤتمر. الإيرانيون لا يريدون حوارا مع الأمريكان، ربما كان هذا عنوانا جانبيا للمؤتمر أيضا. أو ربما يكتب العنوان بشكل مختلف: «رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ يريد حوارا مع إيران، وإيران ترفض أو تتمنع». مما أدى إلى ردة فعل قوية في كلمة كل من روبرت غيتس والجنرال بتريوس اللذين انتقدا إيران بشدة واتهماها بزعزعة الأمن في منطقة الخليج.

ومع ذلك كانت إيران وإسرائيل موجودتين في قضية الأمن الإقليمي في الطرح الجريء وغير المسبوق الذي طرحه وزير خارجية دولة البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، والذي كرر على مسامع الحضور، وبشكل صريح، ما طرحه في نيويورك سابقا حول الحاجة إلى منظمة أمن إقليمي تشبه المنظمة الأوروبية للأمن وتضم في عضويتها إضافة إلى دول الخليج ومصر والعراق والأردن، كلا من تركيا وإيران وإسرائيل. حدث هذا بينما كانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس تدعو وزراء خارجية دول الخليج زائد ثلاثة (مصر والعراق والأردن) لاجتماع في الأمم المتحدة، مما عزز فكرة الاستمرار في الحديث حول منظمة الأمن الإقليمي تلك.

وفي لقاء متلفز ضمن فعاليات المؤتمر وبرعاية قناة «العربية»، شاركت فيه مع وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة ونائب رئيس الوزراء العراقي برهم صالح ووزير خارجية حكومة الظل البريطانية ويليام هيغ ومساعد وزير الخارجية الأميركي مارك كيميت، ناقشت الشيخ خالد بن أحمد حول الأسس التي تجعل من مثل هذا التجمع المقترح ممكنا. كان نقاشي مبنيا على ما لاحظته من ردة الفعل الخليجية في المؤتمر عندما طرح غيتس فكرة انضمام العراق إلى مجلس التعاون. حيث كان واضحا على وجوه الحاضرين من دول مجلس التعاون أنهم لا يحبذون الفكرة. قلت للشيخ خالد، إذا كان الخليجيون يترددون في دخول العراق، وهو دولة عربية أساسية، في تجمع مثل مجلس التعاون الخليجي، فكيف لك أن تتصور أن دول الخليج المحافظة ستقبل بدخول إسرائيل معهم في منظمة للأمن الإقليمي؟

وزير الخارجية البحريني كان مهموما بهاجس الأمن الإقليمي بشكله الاستراتيجي الأوسع. ولا شك أن منظومة إقليمية للأمن تضم معظم دول المنطقة هي أمر لصالح الأمن الإقليمي الخليجي في النهاية، ولكن مثل هذا الطرح لا يمكن تسويقه سياسيا في العالم العربي الآن. الحديث عن ضم إسرائيل لمنظومة أمن إقليمي لا يمكن أن يكون إلا ثمنا لشيء كبير تقدمه إسرائيل في المقابل، وحتى هذه اللحظة لم تقدم إسرائيل شيئا يستحق النقاش.

المعاهدة الأمنية التي وقعها الرئيس الأميركي جورج بوش مع نوري المالكي رئيس وزراء العراق، لم تحظ بأي نقاش في المؤتمر. العراقيون أيضا تركوا الأمن والتهوا بجزمة منتظر الزيدي التي ألقاها في وجه بوش. ولو كان الإنسان جنيا أو شيطانا سفليا طلب منه أن يخطط لشيء يلهي العرب والعراقيين بعرض جانبي بحيث لا يتحدثون في موضوع الاتفاقية الأمنية بين بلادهم والولايات المتحدة، لما خطر على باله شيء أكثر حنكة من موضوع الجزمة. الجزمة سيطرت على حوارات العرب، ونسوا أن العراق قد تورط في اتفاقية أمنية مجحفة! تظاهر العرب للجزمة، ونسوا الأمن الإقليمي. لست من هواة نظرية المؤامرة، ولكن هل كان موضوع الجزمة للإلهاء؟ وهل كانت الضجة المصاحبة له في التلفزيونات العربية كلها من صنيعة الـ«سي آي إيه»، حتى أسكرتنا قصة الجزمة ولم ننطق بكلمة واحدة عن موضوع الاتفاقية الأمنية؟ الله أعلم.

الحوارات التي دارت في مؤتمر المنامة الأخير جديرة بالنقاش، ولكن غياب الصوت العربي في مثل هذه المؤتمرات يعطي مبادرات الآخرين زخما كبيرا، ويجعلها تمر من دون نقاش. لو حضرت الدول الخليجية بالشكل المطلوب في هذا المؤتمر المهم لتغيرت دفة الحوار، ولكنا سمعنا الرأي الخليجي في مستقبل أمن الخليج. قمة مجلس التعاون الخليجي القادمة والمنعقدة في سلطنة عمان، قد تأخذ ما طرح في مؤتمر المنامة بعين الجدية والاعتبار.. فأمام دول الخليج تحديات كبرى، إن لم ترسم ملامحها بنفسها قد يرسمها لها الآخرون.