البلاغ رقم 27

TT

تستطيع أن تقول عن العقل العربي ما تشاء، لكنه عقل اختراعي مبتدع، خلاَّق، متجدّد، ابتكاري، استباقي واستثنائي. ويمكن أن تصفه بالقمري ـ من قمر صناعي ـ واستشعاري ولاقط للحركة. أقل حركة. لا أريد أن أغرق وأغرقكم في بحر من الأمثلة الحسية المادية القاطعة على هذا القول. خذ فقط المثال البغدادي الأخير: 27 ضابطاً من بقايا البعث يتآمرون للإطاحة بالنظام في غفلة عن العالم العربي الغارق في الانتشاء الحذائي، أو وفق التعابير المعاصرة «الحذائووي» ولا تسلني ما الفرق. لكن الحداثة فيها رنة مختلفة وفيها واو إضافية لا يدركها إلا المعاصرون.

جلست أفكر، عبثاً، كيف يمكن القيام بانقلاب عسكروي أو شرطوي في عراق اليوم. بغداد مئة مربع. وأربيل على بعد مليار فرسخ. والبصرة عين تدمع لخضيري أبو عزيز وموال يغني «ما لي شغل في السوق، مريت أشوفك». وكركوك تبحث عن مكان في العراق. والموصل تتدلل عيني، بس موصل ماكو. فكيف تستطيع أن تجمع العراق وتوحده وتحكمه؟ ولو 27 ضابط شرطة من عسس البعث وينتهي الأمر. ولكن أين المارينز وأين أقمار أميركا وأين مخابرات إيران وأين القوة الصدرية وأين قوات الحكومة وعلى ماذا ومن سوف يحكم الانقلابيون الشرطويون؟ لا ندري. إنه العالم العربي يشغل عقله الاستشعاري الحاد. والدقة تقتضي توضيح الأمر للوطن والأمة قبل أن تفيق من البهجة القندرية.

كان في بلد عربي وزير للصحة اشتهر بكرمه. لكن مع الكرم تحولت مستشفيات الدولة إلى مطاعم سخية. وكثرت حالات الوفيات بعسر الهضم وتعدد ضحايا الخرفان بالسمن الحموي. وبدأت الشكاوى. وكان الوزير العزيز، وهو ميال إلى الأسلوب الأدبي، يصدر في كل مرة بياناً توضيحياً خالياً من أي خطأ لغوي. يقول البيان: «ذكرت الصحف أن الفقيد الفلاني أدخل المستشفى الساعة الرابعة من بعد ظهر الثلاثاء وتوفي في العاشرة من صباح الخميس. وانني أتمنى على أصدقائنا الإعلاميين تحري الدقة والحقيقة قبل النشر. فالذي حصل فعلا هو أن الفقيد أدخل المستشفى في الرابعة وعشرين دقيقة من بعد ظهر الثلاثاء وتوفي في العاشرة إلا ربعا من صباح الخميس، خلافاً تماماً لما نشر». أرجو من الحكومة العراقية عدم تصحيح الخبر بأن الضباط من بقايا الشيوعيين وليس البعثيين. لكن هذه أخبار لا تهم أحداً. ليس فيها قنادر وما يتبعها من مهرجانات.