معلومات.. معلومات !

TT

أو ليس مستغرباً في عصر أطلق عليه «عصر تقنية المعلومات» أن تكون الطامة الكبرى التي تدعي دول عظمى أنها تواجهها، هي وقوعها في أخطاء في المعلومات! أو ليس مستهجناً أن يقف رئيس أكبر دولة في العالم مستهيناً بالمعاناة البشرية المريرة التي أنزلها بشعوب العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان وباكستان، ليقول إن الحرب التي شنها على العراق، والتي ذهب ضحيتها مليون شهيد عراقي ومليونان من المعوقين، وكلّفت العراق الكثير من الخراب والدمار والدماء وهددت هويته وتاريخه ومستقبله، قد استند إلى معلومات تبيّن أنها خاطئة! طبعاً نحن ندرك أن هذا القول مجرد تبرير غير مقبول لحرب شنت لأهداف شريرة لم تكن ولن تكون مقبولة، وهو قول لن يبرئ بوش من مسؤوليته المباشرة عن إبادة مليون عراقي، ولكن مشكلة المعلومة الصحيحة والصادقة والمتطابقة مع الواقع تكاد بالفعل تكون سمة «عصر تقنية المعلومات» هذا، وذلك بسبب كبت الإعلام «الحر» وكتم شفافيته واعتماد السياسي على المعلومات المخابراتية وحسب. والمعلومة هنا ليست فقط معلومة رقمية أو حسابية، بل قد تكون معلومة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، بحيث تصبح الهوة بين الشعوب والبلدان فجوة ذات أبعاد اجتماعية أو سياسية أو ثقافية خطيرة، وإذا أخذنا الأمور كما نراها أو نسمعها، فإن الاستتاج الوحيد السليم الذي يمكن لنا أن نتوصل إليه هو أن هذه الهوة تزداد يوماً بعد يوم، وأن سرعة تصنيع وتسويق المعلومة تساهم بشكل أو بآخر في اتساع هذه الهوة. من هنا فقد أخذت الدول تشعر بضرورة عقد لقاءات مباشرة ومؤتمرات موسعة من أجل التعارف الحقيقي الملموس والحوار السليم بصدد القضايا المشتركة التي تعتبرها ذات أهمية في العلاقات بينها. ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعادة التركيز في المدارس والجامعات في الشرق والغرب على العلوم الإنسانية والاجتماعية وتاريخ الأديان والفلسفة والفكر أيضاً.

ولنأخذ مثالاً قريباً على ما نقول، شغل شاشات التلفاز لمدة أسبوع على الأقل ونحلّل الدوافع والأهداف والنتائج لهذا المثال الذي هو شاهد ونتاج لهذه الهوة التي ذكرتها للتوّ. المثال هو «الحادث» الذي تعرض إليه رئيس الولايات المتحدة جورج بوش يوم الأحد الماضي 14/12/2008 في بغداد إثر توقيعه الاتفاقية مع رئيس الوزراء نوري المالكي. حيث قام الصحفي العراقي منتظر الزيدي برمي الرئيس بوش بحذائه تعبيراً عن نقمته وغضبه على الجرائم الدموية الشنيعة التي ارتكبها بوش ضد الشعب العراقي، وعلى هذه الاتفاقية التي تكرّس الإذلال للكرامة الوطنية العراقية. في ذلك المساء كان العالم، والعرب خاصة في حالة ذهول من آخر أسلوب للاحتجاج على الظلم والاحتلال والمجازر الأمريكية من قبل صحفي عراقي أعزل عبّر عن غضبه واستيائه الشديدين بمحاولة توجيه إهانة علنية أمام كاميرات التلفاز لأكبر رئيس دولة في العالم باعتباره مسؤولاً مباشراً عن مأساة العراق. وكانت ردة فعل الرئيس بوش مذهلة بالقدر نفسه، إذ ابتسم مذهولاً من هول الصدمة ليقول: إنه «لم يصب». وسواء أكانت هذه الجملة مكابرة يائسة للتغطية على ما جرى أم لم تكن، فإن مجرد قبول الإهانة بهذه الطريقة، هو أمر يُري الهوة النفسية والاجتماعية الكبرى بين العرب وأخلاقياتهم، وبين ما مثله بوش في هذا الحادث.

ففي الوقت الذي حصل فيه الزيدي على تفهم واسع عربياً وعالمياً لغضبه الذي دفعه لتوجيه هذه الإهانة، التي ستسجل في تاريخ بوش متى ما ذكر بسبب الحرب الظالمة التي شنّها على شعبه، وفي الوقت الذي دُفعت الملايين لشراء الحذاء وقدم البعض وساماً للزيدي، لم يتوقف الرئيس بوش ليقول كلمة عن المعنى الأخلاقي والاجتماعي لما قام به هذا الشاب العراقي وعمّا يعنيه هذا الفعل بالنسبة لملايين العرب، بل ابتسم وكابر وتجاهل، وبالنسبة للعرب، بلع الإهانة ومضى.

في هذا المثال الصارخ نرى الفجوة تشمل ليس فقط المعلومة والحدث، وإنما تقييم وتصنيف المعلومة والحدث والدروس المستقاة منها.

الدرس الأول هو أن الشعب العربي اليوم، وخاصة في فلسطين والعراق والصومال شعب مغلوب على أمره يواجه ابناؤه العزل أقسى ظروف الاحتلال، ويواجهون هذا الاحتلال الأجنبي الدموي بأساليب مقاومة فردية نتيجة عدم توفر الدولة التي تدافع عنهم، ولكن حتى هذه الأساليب يُساء فهمها وتفسيرها وتخرج عن القصد التي وجدت من أجله، والمثال الأبرز على هذا هو ما فعل الإعلام الغربي بقضية المقاومين في فلسطين والذين فجروا أنفسهم احتجاجاً على تفجير الإسرائيليين بأسرهم ومنازلهم وحياتهم فلم يملكوا طريقة للتعيير عن غضبهم وانتقامهم على جرائم التفجير بصواريخ الهليكوبترات، سوى التضحية بأنفسهم بالحاق بعض الضرر وبالأسلوب التفجيري نفسه بمن درج على الإستهانة بحياتهم وممتلكاتهم وكرامتهم وحريتهم. وأخذت النظريات الغربية هذا الأمر إلى تحليلات حاولت النيل من فكرة الحياة والموت في الإسلام، وأساءت تفسير إيمان المسلمين بالدار الآخرة، وأخذت تروّج لمفاهيم مشوهة عن تفضيل بعض المسلمين الموت على الحياة، وما إلى هنالك من ترهات فكرية تافهة.

وإذا أخذنا حادثة إلقاء الحذاء بهدف إهانة الرئيس بوش من قبل الصحفي الزيدي، نرى أنها تقارب في أسلوبها وهدفها ما قام به بعض المقاومين من تفجير أنفسهم للتعبير عن غضبهم ونقمتهم في الوقت الذي لا يمتلكون سلاحاً آخر للدفاع عن أنفسهم وإلحاق الأذى بالعدوّ، من دون إلحاق الأذى بأنفسهم.

والمشكلة في كلتا الحالتين وفي حالات أخرى مماثلة يضيق المجال عن ذكرها هنا، هي أن العرب بعد أن نجح العدو في تقسيمهم إلى مقاومين ومعتدلين، لم يعودوا يمتلكون وسائل الدفاع عن النفس من جيوش مدربة على الدفاع، كما أنهم لم يعودوا يمتلكون الوسائل التي تنشر المعلومة النابعة عنهم وتقدّم التحليلات والتفسيرات التي تعبّر عن وجهة نظرهم، ذلك لأن العرب لا يمتلكون أياً من وسائل الإعلام العالمية والتي تنتج وتوزع أكثر من 90% من المعلومات في العالم يومياً.

في عصر تقنية المعلومات حان الوقت للجامعات العربية، أن تعود إلى ما كانت عليه في خمسينات وستينات القرن الماضي، وهو أن ترتكز على العلوم الاجتماعية والإنسانية بدلاً من هذا التركيز الهائل فقط على الهندسة والطب. كما حان الوقت أن تنتج الجامعات العربية باحثين وباحثات، وليس مدرسين ومدرسات فقط. كما حان الوقت أن نولي اهتماماً كبيراً لإنشاء مراكز أبحاث تنتج أبحاثاً فكرية في السياسة والعلوم وعلوم الاجتماع والدين والفلسفة والفكر، فالحرب المفروضة قسراً علينا اليوم، هي في أولى أشكالها حرب معلومات، حيث نواجه في كل مكان تلالاً وشعاباً من معلومات مشوهة تعرّف بالعرب بما ليسوا هم عليه، وتتحدث بسلبية متعمدة عن هويتهم وقضاياهم.

سواء في المؤتمر العربي الأوروبي، الذي جرى الأسبوع الماضي في فيينا، أو في أي مؤتمر آخر نشعر بالحاجة إلى انتاج عربي معلوماتي مميّز يسهم في إضاءة حقيقية حول العرب وقضاياهم، قبل أن نتمكن من إجراء حوار نديّ يحقق لنا العدالة والكرامة المتساوية في ذاتنا كما في أرضنا وحقوقنا. لقد فتح العرب للشعوب أبواب العلوم والفنون والحضارة وساروا في مناكب الأرض بلغتهم وثقافتهم ودينهم، أي بمعلوماتهم، فهل يمكن أن يعودوا اليوم ليؤمنوا بأهمية إنتاج ونشر المعلومات عن ذواتهم على الأقل، بدلاً من أن يكونوا موضوعاً للمعلومة المشوّهة أو متلقين للمعلومة الأسوأ؟

www.bouthainashaaban.com