طالباني بين الحقل الكردي والبيدر التركي

TT

لم يعد خفيا على أحد، أن الرئيس العراقي جلال طالباني يقود منذ مدة، وبعيدا عن الاعين والعدسات، عملية حوار وتفاوض بين أكثر من طرف وفريق داخل مثلث انقرة ـ بغداد ـ أربد تحت عنوان مناقشة الملف الكردي ببعديه التركي والعراقي، وان مهمته هذه تندرج ضمن المستحيلة وسط تصلب الفرقاء وتشددهم في مواقفهم وطروحاتهم.

طالباني الذي نجح ضمن مناورة سياسية موفقة في اقناع كل من مسعود البرزاني شريكه في ادارة شؤون شمال العراق والقيادات التركية التي التقاها خلال زيارته الاخيرة الى العاصمة التركية والمسؤولين الاكراد في حزب المجتمع الديمقراطي، الذي تدعمه القواعد الشعبية الكردية في مناطق جنوب شرقي تركيا وشخصيات وهيئات تتولى نقل الرسائل الى حزب العمال الكردستاني المتمركز في شمال العراق بمنحه مثل هذه الفرصة لتحريك الرماد تحت الطبخة السياسية املا في اخماد النار الملتهبة عسكريا وامنيا، يكاد يصل الى طريق مسدود يعيده الى خط البداية، فهو يعرف قبل غيره ان الموضوع في غاية الدقة والحساسية، ويحمل اكثر من بعد امني وسياسي متداخل بالغ التعقيد والتشابك.

أول المترددين الذي اربك طالباني وقد يدفعه الى تخفيف حماسه واندفاعه هذا، كان الرئيس التركي عبد الله غل، الذي التقاه مؤخرا في نيويورك على هامش اعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووعده بزيارة قريبة الى بغداد في أواخر الشهر الحالي، أصر طالباني على أن تشمل مدن شمال العراق ايضا كمقدمة لحوار كردي ـ تركي رسمي يريده ويراهن عليه اكثر من طرف في البلدين. وهذا ما اقلق غل ودفعه لإرجاء الزيارة متسلحا بحالته الصحية وتقارير الأطباء الذين اصروا على الغاء جميع رحلاته الجوية شهرا كاملا. اصرار طالباني الى درجة الاحراج على اصطحاب غل الى معقل الزعيم الكردي مسعود البرزاني من دون اي تقدم فعلي وتغيير جدي في مواقف الأخير حيال مسائل تقلق انقرة وتزعجها وفي طليعتها تساهله في موضوع وجود وتحرك وانتشار قيادات حزب العمال وكوادره في المناطق الواقعة تحت سيطرته واصراره على التمسك بكركوك كمدينة لا بد من وجودها داخل حدود المربع الكردي في شمال العراق يضع الرئيس التركي في موقف صعب هو بغنى عنه في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها الداخل التركي، خصوصا ان المتربصين والمراهنين على ابسط هفوة يرتكبها قياديو العدالة والتنمية يزداد عددهم يوما بعد آخر، وان موعد الانتخابات البلدية يقترب وسط استطلاعات رأي مقلقة في اوساط حزب رجب طيب أردوغان.

مواقف وتصريحات رئيس الحكومة التركية، الذي يعد في هذه الآونة لرزمة من الحلول السياسية والثقافية والاجتماعية تحت عنوان الانفتاح والتغيير في التعامل مع الموضوع الكردي في محاولة لاحراز بعض التقدم في التعامل مع هذا الموضوع قبل الانتخابات المحلية المرتقبة في اواسط اذار المقبل بين المسائل التي تقلق الرئيس العراقي، فأردوغان يصر على الفصل بين الملفين الكرديين في كلا البلدين، وان حكومته تتحرك باتجاه اعتماد سياسة انفتاح وتغيير واسع في التعامل مع هذا الموضوع من منطلق داخلي بحت، وهي تتحرك من اجل ذلك باتجاه اكثر من منفذ يتقدمه ما يردد حول فتح ابواب التلفزيون التركي الرسمي امام برامج تبث باللغة الكردية على مدار الساعة وخطة نقل بعض السجناء الى جزيرة ايمرالي، التي حولت منذ سنوات الى سجن كبير يمضي فيه عبد الله اوجلان وحيدا عقوبته، هذا الى جانب جملة من القرارات السياسية التدريجية قد تصل الى نقطة اعلان العفو ضمن شروط محددة عن العديد من كوادر وقيادات العمال الكردستاني.

ما يعرفه الرئيس العراقي ايضا ان طبخته السياسية هذه يعرقلها قوة معارضة سياسية وشعبية لا يستهان بها يقودها حزب الحركة الملي اليميني المتشدد الذي يطالبه بعدم التلاعب بتركيبة شمال العراق الديموغرافية، والتنبه الى أن حسابات الحقل قد لا تنطبق على حسابات البيدر ويدعوه الى عدم المراهنة كثيرا على فكرة استبدال صفة «لارهابي» التي تطلق على الحزب الى جماعة «الخارجين عن القانون» أو «المنظمة غير الشرعية» ليكون ذلك تمهيدا للتفاوض وهي المطالب التي حملتها قيادات حزب المجتمع الديمقراطي الى طالباني وبرزاني وتريد ان تكون نقطة البداية في فتح صفحة جديدة من العلاقات.

طالباني الذي يريد أن يخرج بلباس المنتصر الأكبر في هذا الملف يوفر له المزيد من القوة السياسية والشرعية القانونية لوضع اقليم الشمال أولا ويساعده على تحسن علاقاته المتردية مع انقرة ثانيا وتكريس نفسه كزعيم كردي نجح في ادخال مسار سياسي جديد على الملف الكردي بجانبه التركي ثالثا سيعرف قريبا ومن خلال ردود الفعل التركية والعراقية الداخلية، اذا ما كان قد حقق فعلا بعض التقدم في مشواره الطويل هذا، واذا ما كان سينجح في عملية قطف الموسم قبل منافسيه السياسيين، ام انه وصل الى طريق مسدود يدفعه الى المسارعة في رمي الكرة في ملعب الآخرين وتحميلهم مسؤولية الفشل تجنبا لهجوم سياسي يقوده رئيس الحكومة العراقية الذي يتهمه دائما بالتفرد وبتجاهل القيادات والاحزاب الاخرى في التعامل مع قضية هي قضية العراق بأكمله لا يجوز احتكارها او تعريضها للمخاطرة على هذا النحو.

* كاتب ,أكاديمي تركي