أفغانستان.. الجبهة الأخرى

TT

توجه نور الله ناحية ورشتنا وصافحنا، وقد بدا في حالة غضب شديدة، وقد أثارتنا حالة الغضب التي تعتريه، واندفع قائلا «لا توجد حكومة، الشرطة هنا مثل الحيوانات».

وبدأت القصة تأتي تباعا منه، حيث قال إنه قد حدث تصادم بين سيارة تاكسي ودراجة في سوق قندهار بين عربات الخضراوات الخشبية التي تجرها الحيوانات. وعندما حاول سائق إحدى العربات الالتفاف لتفادي ذلك الزحام قام بالارتطام بإحدى الشاحنات الخضراء المفتوحة من الخلف والتي تقودها الشرطة. وفي غضون دقائق قامت قوات الشرطة بجر الرجل على الأرض، وانهالت عليه ضربا ـ لكمة إثر لكمة في رقبته وفي فخذه وفي عنقه، حتى بدأ أصحاب المحال التجارية الصغيرة في الصياح «ما بالكم تفعلون به هذا، هل ترغبون في قتله؟»، فقام رجال الشرطة بسحب الرجل إلى سيارتهم وأخذوه وانصرفوا.

وقال نور الله أحد النفر الثلاثة عشر الذين يعاونونني في ورشتي «إذا كان قد أخطأ، فهل توجد لدينا محكمة مرور؟ وهل من حقهم أن يوسعوه ضربا بهذه الطريقة؟».

لقد أمضيت سبع سنوات من عمري هنا في معقل طالبان الجنوبي ـ عاصمتهم السابقة والتي تعد منطلق هجماتهم على سائر أنحاء البلاد ـ وكانت معظم لقاءاتي مع السكان المحليين هنا حول الفساد وانتهاكات السلطة، وقال لي نور الله في مناقشة سابقة قبل أسبوعين «نحن بحاجة إلى حكومة جيدة أكثر من الطرق، وأكثر من المدارس أو الآبار أو الكهرباء». لقد وضع نور الله يده على قلب المشكلة وقد صدمنا نحن وأصدقاؤنا هنا في قندهار، عندما علمنا بمقترحات تفيد بأن حل إطالة الشعر في البلاد بحاجة إلى تسوية سياسية بين «الأطراف المعنية» وهو ما يعني طالبان. لكن المفاوضات مع طالبان لن تحل المشكلة، وإنما ستعمل على تفاقمها. سلوا أي أفغاني عما يحتاجه فعلاً وسوف يقولون لك: تهذيب أخلاق المسؤولين الذين أتت بهم الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى السلطة، في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001.

أكتب تلك الكلمات على ضوء خافت. فإلي يساري شمعة ضخمة، وإلى يميني موقد كيروسين إذ لا نحصل على الكهرباء سوى خلال ثلاث أو أربع ساعات في اليوم، وغالبا ما تكون من الساعة الواحدة وحتى الخامسة مساء، ولا تزال فواتير الكهرباء تحصل. ولكي تقوم بدفع تلك الفواتير، فعليك الانتظار لما يقرب من ثماني ساعات في مبنيين مختلفين. ولن تستطيع أن تنجز تلك المهمة الشاقة من دون أن تصل إلى مسامعك كلمات نابية. وقد يصادفك الحظ، فما ان تصل إلى الشباك يسمعك المسؤول عبارة: «المكتب مغلق، عد إلينا غدا» ونظرا للعجز في تقديم الخدمة، فإن وزارة القوى لن تقوم بتوصيلها إلى مشتركين جدد، على الأقل رسميا، لكن مبلغ 600 دولار ـ الذي يمثل 15 ضعفًا للرسوم المقررة للتوصيل والذي يعد أيضًا ثروة بالنسبة للأفغانيين ـ يمكنك من الحصول فقط على عداد كهرباء جديد.

قام أحد أصدقائي في الفترة الماضية بزيارة إلى السجن في إقليم أروزغان شمالي قندهار، حيث يوجد به 24 سجينا، كان من بينهم ستة قابعون في السجن شهورا وربما سنوات من دون تقديمهم للمحاكمة أو توجيه تهم إليهم. وقد أخبره المدعي العام في قندهار أن أحد المدانين عرض عليه ذات مرة سيارة لكزس، إذا توقف عن التدخل في قضية يجري تحقيقًا بها.

على الجانب الآخر من الشارع كان هناك مستوصف طبي وعندما تم نقله إلى مكان جديد قام مسلحون يرتدون زي رجال الشرطة بإقامة نقطة تفتيش خارج المبنى الخالي، ودلتنا تحرياتنا على أنهم الحراس الشخصيون لأحد كبار المسؤولين الحكوميين هنا. لكن ماذا كان هدفهم؟ كان الهدف من ذلك إرسال تحذير إلى أصحاب المبنى بعدم التدخل فيما سيحدث له بعد ذلك. وبعد أيام قلائل قام بعض أصحاب المسؤول الحكومي بالانتقال إليه.

لم يكن بيد صاحب العقار ما يفعله، وما من مجيب لاستغاثاته، فهذا المسؤول الحكومي ساعدته الولايات المتحدة في عام 2001 للوصول إلى السلطة، وهو من بين الذين يدعمهم ويؤيدهم المجتمع الدولي، ولم يجر تحقيق حول تلك الواقعة منذ ذلك الحين.

قد يكون ذلك هو السبب الرئيس في تقدم طالبان في أفغانستان ـ ليس لأن أحدا يحبهم، ولكن حتى هنا في معقلهم السابق، يتوق البعض إلى قوانينهم العقابية.

وصلت إلى هنا في أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2001 بعد أيام من فرار الملا محمد عمر زعيم طالبان، وبعد أن استعادت حريتها من طالبان، عمت الفرحة المدينة حيث كان الطائرات الورقية تطير في الجو لأول مرة منذ ست سنوات، وقام الناس بالتدافع على محلات شرائط الكاسيت لشراء شرائط الموسيقى، واستمعت إلى تجار الأفيون يناقشون أيهم سيتبرع بسطح بيته كمدرسة للحي. ولم أجد عداوة كأميركية أكشف عن وجهي على الإطلاق.

وتلقت حكومة حامد كرزاي دعما عالميا من المجتمع الدولي. منذ ذلك الحين بدأت آمال من جانب كل الأفغانيين الذين قابلتهم ـ في أن تحكمهم حكومة محترمة وسريعة الاستجابة يديرها أشخاص متعلمون ـ في التحطم على صخرة الواقع، حيث يعاني الأفغانيون الآن لدرجة أنهم لا يحسون بالفارق بين سلب ونهب طالبان وحكومتهم الحالية. وتقول أحد مساعداتي في المتجر شاكية «نحن مثل رجل يحاول الوقوف على بطيختين، فطالبان يسلبوننا في الليل والحكومة تنهبنا في وضح النهار».

وقد سمعت من بعض الغربيين أن الفساد متجذر في الثقافة الأفغانية، لذا يجب ألا نطبق معاييرنا عليهم. كما سمعت أن أفغانستان أرض قبلية لا يمكن أن تحكم.

لكن ذلك لا ينطبق على ما سمعته من الأفغانيين.

يستدعي الأفغانيون إلى ذاكرتهم حكم الملك ظاهر شاه وابن عمه داوود خان، في ستينات وسبعينات القرن الماضي حيث كانت المدن الأفغانية من بين أكثر المدن تطورا وشهرة في العالم الإسلامي، وعندما كانت تقوم هيئات السلام بحملات تطعيم سيرا على الأقدام وتلقى ترحيبا في كل أرجاء البلاد، وعندما كان أصدقائي هنا يقولون لي إن رجل الشرطة الأعزل يمكنه بمفرده اعتقال مجرم مشتبه به في قرية بعيدة من دون معارضة من أحد.

وقد امتدح أهل قندهار ـ حتى أولئك الذين فقدوا أخا أو أبا في ثمانينات القرن الماضي إبان الغزو السوفياتي ـ حكومة الرئيس الأسبق نجيب الله، التي كان يدعمها الاحتلال، فيقول فايز الله عضو آخر من بين مساعدي «لم يكن مسؤولوه يقومون ببناء قصور مكسوة بالرخام بالأموال التي يجمعونها من الدولة».

سألت ثلاثة من العاملين معي ـ وهم قرويون لم يحصلوا على تعليم رسمي ـ ما الوظائف التي كانوا سيختارونها إذا كانوا مسؤولين محليين في قندهار. قال كريم «إنني أرغب في أن أكون مسؤولاً عن الصحة العامة، فالقمامة المكدسة في شوارعنا تعد مخاطر صحية تثير الاشمئزاز».

بينما قال عبد الأحد، إنه يرغب في أن يكون المسؤول عن السجل العقاري «كي لا تتمكن الشخصيات الكبيرة من الاستيلاء على الأراضي وتوزيعها على أتباعهم».

وقال نور الله إنه يرغب في أن يكون مسؤولاً عن الموازين والمقاييس وجودة البضائع في السوق.

في أعقاب الغزو السوفياتي، الذي راح ضحيته مليون أفغاني خلال فترة الثمانينيات، والذي أعقبه خمس سنوات من الحرب الأهلية، وست أخرى من حكم طالبان الذين فرضوا الأحكام الدينية على المجتمع، تطلع الأفغانيون إلى الولايات المتحدة، التي تشتهر بسيادة القانون فيها ـ لمساعدتهم في بناء حكومة قوية قادرة على الاستجابة وخاضعة للمحاسبة.

وبدلا من أن تسلم السلطة إلى أيدي حكومة قوية، أعيدت السلطة مرة أخرى إلى المسلحين الذين نبذهم المجتمع منذ سنوات. وقال لي أحد أصدقائي هنا في كابول ـ وهو أحد متلقي المعونات ـ إن قائد الشرطة محمد أنور سأله في 2002 قائلا «ما الذي نفعله نحن أمراء الحرب في السلطة؟ لقد أقسمت على القرآن أن أحارب طالبان لكي نقيم حكومة متعلمة قادرة على إدارة دفة الأمور في البلاد. أما الآن فالأشخاص مثلي هم الذين يديرون البلاد».

وفي ذات السياق من ذلك الإحباط الواضح، الذي يتزايد منذ ذلك الحين بدأ الناس في اختيار طالبان. فمنذ عام 2001 كانوا مسلحين وممولين ومدربين ويعملون بتنسيق مع باكستان الذي أسهمت مؤسساتها الاستخبارية في تكوين الحركة عام 1994.

وقد شهدت منذ أواخر عام 2002 تصاعد هجمات طالبان، حيث حاول الجيش الباكستاني عبر طالبان الحصول على موطئ قدم له في أفغانستان والسبب الذي شجع على ذلك هو السلوك الشائن للمسؤولين الأفغان. فمن الذي يرغب في أن يدافع عن مسؤولين يسرقونه؟ إذا كانت طالبان قد فقأت أعين الأشخاص الذين يتهمونهم بالتواطؤ مع الحكومة كما حدث ذلك مؤخرًا في قندهار فإن المسؤولين الحكوميين يعاملون الأفراد وكأنهم قمامة. إذا فلماذا يخاطر الشخص بالتحالف مع عملاء حكومة كابل؟

تلقى حكومة كرزاي رفضا شعبيا كبيرا، فالكثير من أهل قندهار والمناطق الأخرى في أفغانستان، يرفض التعاون مع الحكومة أو حتى تلقي المساعدات التنموية. وعندما يأتي أفراد طالبان إلى المساجد يطلبون المال أو الطعام فإن الأفغانيين يقدمونه لهم، والكثير هنا يقومون بذلك كنوع من الاحتجاج ضد الحكومة.

لن يكون حل المشكلة في الجلوس مع مرتكبي جرائم الرعب التي نشهدها كل يوم في قندهار على المائدة لاقتسام الكعكة الأفغانية (كيف يمكن التفاوض مع طالبان وهو الأمر الذي سيؤدي إلى ما أكده الأفغانيون من اقتسام السلطة).

الحل يكمن في محاسبة المسؤولين الذي مكنّاهم من السلطة في عام 2001 والوصول إلى ما وراء سماسرة السلطة والاستماع إلى أنات المواطن الأفغاني البسيط. وإذا كان لتلك الشكاوى أساس من الصحة، فإنه يجب على المسؤولين الغربيين الضغط من أجل التعامل معها واستخدام وسائل الضغط العديدة لديهم. وبرنامج المراقبة الناجح الذي يعمل بمقتضاه المسؤولون العسكريون جنبا إلى جنب مع الجيش الوطني الأفغاني يجب أن يتم توسعته ليغطي الإدارات المدنية، كما يجب على الحكومات الغربية أن ترسل عمداء مدن سابقين لديهم خبرة كبيرة ومفوضي مقاطعات ومسؤولي وزارة الماء والكهرباء والصحة لمراقبة هؤلاء المسؤولين في أفغانستان.

وإذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها قد أوفوا بوعدهم الأولي، ودفعوا بالحكومة الأفغانية لأن تصبح مؤسسة يمكن لأفرادها الفخر بأنهم «متصالحون»، إلا أن طالبان ستدخل إلى أماكن سيطرتهم والشعب الأفغاني يعرف ما سوف يحدث بعد ذلك.

* مؤلفة كتاب «معاقبة الفضيلة: أفغانستان ما بعد طالبان»

* خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)