بين «ظاهر» المنطقة و«باطنها»

TT

شيء ما يجري في منطقة الشرق الأدنى غدا أشبه ما يكون بحكاية «إبريق الزيت» التي لا تنتهي. والأمل مع استقبال الإدارة الأميركية الجديدة في العام المقبل، ومن بعدها إنهاء الناخبين في إسرائيل مهزلة ديمقراطيتهم العصابية، أن تُحسَم قضايانا.. سلماً أو حرباً. فإن جنحنا للسلم متدثرين بالقرارات الدولية ومقرّرات «قمة بيروت» ـ إبان عهد الرئيس «المقاوم» العماد إميل لحود ـ كان بها، وإلا فالحرب... التي نحن أبناء بجدتها ولا فخر.

الحقيقة، لا أفهم حتى الآن لماذا تأخرت «ساعة الصفر» طالما أن بمقدورنا سحق الأعداء وشطبهم من الخارطة بخطبة عصماء تلهب المشاعر والأكف ومظاهرة تضامنية سوداء تخوّن «المتواطئين» ذات اليمين وذات اليسار. لكن ما أستطيع الجزم به أن لا أحدَ سيقف في خندق واحد مع إسرائيل إذا أزفت الساعة، بل لعل الجماهير الغاضبة ستهدر وتتحرّك.. من دون تحريك أو محركين.

أكيد في السياسة، كما في غيرها، «ظاهر» و«باطن» لكننا في المنطقة العربية على ما يبدو لي لم نكتشف بعد الأمور الجوهرية البسيطة التي يتحاشى البعض تناولها بصورة مباشرة، بل أننا نتعرض لتضليل مُمنهَج نضيع معه في التفاصيل الجزئية، في حين ينبغي أن نرى الصورة البانورامية الشاملة للمنطقة.

عادةً عندما ترسم القوى الكبرى ـ والصفقات الكبرى ـ الصور الإقليمية البانورامية الشاملة يدفع «الصغار» الثمن، فيذهبون «فرق عملة» أو حسب التعبير الشعبي المصري «فكة» لا أكثر ولا أقل. واليوم، كما بالأمس، ما لم ينتصر في واشنطن التيار الأميركي المقامر الداعي إلى تفتيت المنطقة بأسرها، هناك شعبان عربيان مهدّدان جدياً بأن يذهبا «فرق عملة» للصفقة الكبرى الآيلة إلى رسم الصورة الإقليمية: الأول هو الشعب الفلسطيني المظلوم الذي كانت قضيّته هاجس العرب الأول ومعيار شرعية انظمتهم السياسية. والثاني هو الشعب اللبناني الذي كان مرشحاً لأن يشكل طليعة الفكر التحرّري والديمقراطية والتنوير واحترام التعايش الإنساني والفئوي.

القرار الفلسطيني المستقل، حتى أيام الخطاب القومي الوحدوي، كان ضمانة لبقاء القضية الفلسطينية حيّة في عقول العرب وقلوبهم. ولذا كان المراهنون على تعزيز مواقعهم فوق موائد الصفقات الكبرى يسعون إلى تناهش القرار الفلسطيني والهيمنة عليها. بدليل أنه ما كادت المقاومة الفلسطينية تظهر في غور الأردن بمنتصف عقد الستينات من القرن الماضي حتى بادرت بعض الأنظمة العربية الطموحة إقليمياً والمتشجعة بمناخات الحرب الباردة، إلى تأسيس «دكاكين» خاصة بها داخل حركة المقاومة لمنازعة القوى الفلسطينية الأساسية قرارها المستقل.

ونجحت «الدكاكين» في إرباك الساحة الفلسطينية وتشتيت تركيزها أواخر الستينات في الأردن وصولاً إلى «أيلول الأسود» عام 1970. واستمرت ديناميكية التناهش والسعي إلى مصادرة القرار الفلسطيني المستقل بعد انتقال المقاومة إلى لبنان، ومن ثم تأجيج بعضها الخطاب السياسي «التغييري» الذي غرّر بالحركة الوطنية اللبنانية وخَدَعها، فاستدرجها عام 1975 إلى مواجهة داخلية مع قوى لبنانية أخطأت هي الأخرى في استيعاب خطورة المرحلة ومتغيراتها.

ومن مأساة الفلسطينيين واللبنانيين تسارع إيقاع عقد الصفقات من حولهم، ولا سيما، بعد انزواء مصر نتيجة كامب ديفيد (1978)، وانجراف العراق في الحرب العراقية ـ الإيرانية خريف 1980، وتسليم واشنطن مقدّرات لبنان للحكم السوري ـ حليفها المستتر والموثوق ـ على دفعتين (1976 و1990).

نهاية الحرب الباردة عام 1989 مثلت بداية النهاية للخيار الثوري الأممي في لغة المقاومة. وبعدما كانت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وشظاياها المتعدّدة خيار الراديكالية الرافضة لأبوية «فتح» وقياداتها التسووية، ظهر على الساحة البديل الإسلامي ممثلاً بـ«حماس». ولم تكن ظاهرة العودة إلى القتال بسلاح الدين مسألة فلسطينية منعزلة.

ففي لبنان، مثلاً، نجح الإمام موسى الصدر في سحب ألوف الشباب الشيعة بعيداً عن أحزاب اليسار للانخراط في حركة «المحرومين» التي تبلورت في ما بعد بحركة «أمل»، ومن ثم انتقل بعض هؤلاء للانتظام في «حزب الله» ذي العلاقات الوثيقة بطهران. وفي العراق غدا «حزب الدعوة» وقوى شيعية أخرى طليعة مقاومة لنظام صدام حسين العشائري بعدما كان جنوب العراق الشيعي معقلاً لليسار.

ومن دون النظر إلى أفغانستان حيث لعب الغرب ورقة «المجاهدين» لاستنزاف «الجيش الأحمر»، صار اليمين الديني قوة مؤثرة في العديد من الدول الخارجة من تحت خيمة النفوذ السوفياتي... حتى في موسكو «الأرثوذكسية» ذاتها.

عودة إلى مسألة ثمن الصفقات و«فرق العملة».. يبدو أن بعض اللبنانيين اليوم مدركون تماماً لهذا الخطر، وقد يكون الاستثناء الوحيد «تيار» ميشال عون الذي يخدع نفسه دائماً بوهم أنه قادر على خداع الآخرين. كذلك هناك وعي متزايد، ولكن ليس كافياً حتى الآن، في الشارع الفلسطيني لوجود هذا الخطر. والصورة البانورامية واضحة.

فالولايات المتحدة، برغم كل الكلام والكلام المضاد، لا تريد ضرب إيران. وفي طليعة الأسباب أنها، بغض النظر عن حبها لنظام «الولي الفقيه» أو كرهها له، بحاجة إلى كيان إيران ككتلة بشرية وحضارية واستراتيجية في المواجهات المستقبلية الممكنة في محيطها المباشر جنوباً وشرقاً وغرباً وشمالاً.. أو ما هو أبعد منه كغرب الصين. ثم أنه على العكس، في واشنطن اليوم مَن يدعو صراحة ـ بخلاف الموقف المعلن للرئيس المنتخب باراك أوباما ـ للتعايش حتى مع «إيران نووية»!

وإسرائيل، بمباركة «اللوبي» اليهودي الليبرالي الأميركي، حريصة على تنفيس احتقان المنطقة عبر التحاور والتفاوض مع سورية من فوق معاناة الفلسطينيين وعلى حساب حلمهم بدولة مستقلة قابلة للحياة. بكلام آخر، لا حل إسرائيلياً للفلسطينيين الذين إنما يُستخدمون اليوم وقوداً لتدفئة غيرهم. وإيران قوة إقليمية غير عربية أدركت مزايا خوض لعبة لي الأذرع الابتزازية مع واشنطن خارج أرضها. ولذا، فإن ما تنفقه من مال ورعاية وتدريب وتموين على الحركات والجماعات التي تحرّكها في أجزاء عديدة من الوطن العربي هو جزء من إنفاقها على أمنها الوطني. الفارق الوحيد أنها تدافع عن ترابها بأجساد الآخرين ومصائر الآخرين.

أما «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«حزب الله» فتنظيمات شعبية لها الصدقية النضالية لكنها تفتقر إلى القرار الاستراتيجي المستقل على المستوى الإقليمي. ولذا، فهي وإن كان باستطاعتها تعبئة شارعها وتدمير كياناتها بحروب أهلية مدمّرة.. عاجزة عن تعطيل الصفقات الإقليمية التي يعقدها محرِّكوها في طهران.. مع «خصوم» اليوم.