«البعث» بين ديمقراطية الاجتثاث وديمقراطية التطهير

TT

كان أحمد الجلبي في طليعة الذين ورطوا إدارة بوش في غزو بلده العراق. جلب البروفسور جلبي معه من أميركا شعار الديمقراطية. ثم قاد حملة «اجتثاث» البعث والبعثيين!

لا أدري كيف يمكن لمثقف سياسي وأستاذ جامعي، كالجلبي، أن يوفق بين النقيضين، بين الديمقراطية والاجتثاث؟! الديمقراطية سلطة اللاعنف. لا أدري كيف لديمقراطيةٍ أن تمارس اجتثاث الأحزاب واستئصال الناس؟! أستاذ الأدب العربي كان مؤدبا أكثر من الجلبي. اختار الأستاذ المالكي شعار «التطهير» الأقل جفاء ودموية من «الاجتثاث»، وأطلقه على الحملة التي تقودها حكومته وميليشياه الرسمية حاليا لاعتقال المتهمين بإعادة تشكيل حزب البعث.

ديمقراطية فيها اجتثاث واستئصال وتطهير، لا بد أن يكون فيها قصف بالأحذية. أخيرا، تذوق الرئيس جورج بوش مذاق ديمقراطية «الفوضى الخلاّقة» التي فرضها على العراق، ديمقراطية بلا ثقافة سياسية «بلا أدب اجتماعي» بلا تربية أخلاقية.

أريد أن أصحح صورة «البعث» لدى جيلين مشرقيين ولدا وتربيا والبعث يحكم العراق وسورية خلال الأربعين سنة الماضية. هذان الجيلان يتصوران البعث حزبا فاشيا. لا شك ان الحزب يحمل كل مزايا ومواهب الفاشية: عبادة الشخصية. نفاق الإعلام عن الحرية والتنمية. فساد المحاباة المروِّع. تنظيم حزبي متكلس. واهي البنية. محشو بموظفين وطلاب وعمال وعسكر وانتهازيين...

لكن الفاشية عموما تعبر عن الشوفينية الوطنية والقومية. الفارق بين البعث والفاشية ان حزب الوحدة القومية بات حزب الطائفة في سورية، وكان حزب العشيرة في العراق. أقول لشباب هذين الجيلين ان حكم العشيرة والطائفة أشد سوءاً وتخلفاً من الفاشية. قلت مرارا ان البعث لم ينشأ فاشيا. نشأ البعث على الحوار بين الأساتذة والطلبة. حوار مدرسي حر وبريء. لكن، مع الأسف، كان حوارا بلا إيمان عميق لدى أساتذة الأربعينات والخمسينات بقيم الحرية والديمقراطية. وهكذا، سرعان ما احتل الحزبَ عسكرُ الطائفة في سورية وشباب العشيرة في العراق.

كتب أكرم الحوراني أهم مذكرات سياسية عربية. أغفل الحوراني أمرا واحدا. أغفل دوره «التاريخي» في عسكرة شباب الطائفة والحزب. ميشيل عفلق لم يكتب مذكرات. ربما خجل من تاريخه المخزي في تبني العسكر الذين انقلبوا على الحوراني في سورية. خجل أيضا من الجلوس صامتا في قفص صدام الذهبي في العراق.

أرسى صدام بثقافة العشيرة بذور الفراق بين السنة والشيعة. غباء صدام ضيّع العراق. سلمه الى سلطة احتلال أغبى. بعد كل الذي جرى، لا يمكن أن يبقى بعث العراق على الشكل الذي تركه صدام. كلما سمعت ان عزة الدوري يقود مقاومة حزب البعث، أعجب كيف أن رجلا عديم الثقافة واستهلكه المرض يقود حزباً. لا شك ان البعثيين القادرين على التفكير يعرفون ان شخصا، كالدوري بثقافته العشيرية واستزلامه لصدام، لا يمكن أن يكون صورة للحزب في عراق ما بعد صدام.

البعث العراقي اليوم أحزاب وأجنحة مبعثرة: بعث الدوري. بعث بشار الذي يتبرع بتشكيل بعث آخر للعراق. بعثيون عاقدو النية على تشكيل بعث جديد، بعث قومي مؤمن بعروبة العراق، بعث ديمقراطي، حر التنظيم بلا خلايا وشُعب سرية. بلا عبادة للشخصية.

البعث حزب آيديولوجي. أحزاب العقيدة لا تموت، بما في ذلك العقيدة الفاشية أو اليسارية. وصلت ملاحقة الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى درجة الاجتثاث في سورية، بعد اغتياله العقيد (البعثي) عدنان المالكي (1955). مع ذلك لم يمت. هو الآن عضو في جبهة بشار (البلغارية) للأحزاب التقدمية.

الديمقراطية الروسية تسمح ببقاء حزب شيوعي ماركسي. لا بد للديمقراطية العراقية، بعد تخليها عن ثقافة الأحذية والاجتثاث والاستئصال والتطهير، من القبول بنشوء بعث آخر. بعث بلا غانغستر عشيري. بعث متعايش مع الآخرين، من دينيين وأكراد وشيوعيين. بل بعث ديمقراطي يستطيع الوصول إلى السلطة مرة أخرى، عبر الاقتراع الشعبي الحر والنزيه.

توارت تهمة الانقلاب التي وجهت إلى الضباط المعتقلين. وجد المالكي ان اتهام حفنة من ضباط شرطة المرور غير مقنع لكل من له وعي سياسي. توارت تهمة الانقلاب ليتمّ تلفيق تهمة الإرهاب! في غمرة المعلومات والشائعات المتناقضة، أقول ان العسكر ورجال المخابرات غير جديرين بإنشاء حزب. هذه هي مهمة المدنيين. مهمة البعثيين الذين اعتبروا بمآسي تجربة صدام وعسكرة الحزب.

إشكالية النظام الشيعي/ الكردي في العراق تكمن في عجزه عن تشكيل طبقة سياسية حاكمة وإدارية، طبقة نظيفة. نزيهة. واعية. طبقة بلا أحزاب هي امتداد لميليشيات مستأجرة لحساب إيران وغير إيران، ومخترقة لأجهزة الدولة، خصوصا أجهزتها الأمنية والعسكرية. انهيار سمعة النظام هو الذي يحفز القوى الأخرى، على التحرك والتفكير للتغيير بوسائل غير ديمقراطية، كالانقلاب أو التمرد المسلح.

أدب المالكي السياسي تطور نحو فهم أنضج كرجل دولة. تراجع قليلا هواه الطائفي. لكن «مجالس الإسناد» التي شكلها لن تضمن لحزبه الصغير (حزب الدعوة) البقاء في السلطة طويلا، لا سيما عندما يصبح رحيل الأميركيين الذين يدعمونه شخصيا محتما. من هنا، لا حاجة لديمقراطية المالكي إلى حملة «تطهير» بعد حملات الاجتثاث والاستئصال والاغتيال. إذا كان المالكي قويا وديمقراطيا حقا، فعليه تحدي البعثيين بمطالبتهم بتشكيل حزب ديمقراطي.

أميركا مهتمة بشائعة الانقلاب. في ضوء الاعتقالات، لا تفسير لتصريحات كبار القادة الأميركيين عن بقاء قوات أميركية داخل المدن العراقية، خلافا لنص المعاهدة، سوى أن مهمتها هي إحباط أية محاولة انقلابية، على الأقل في غضون السنوات الثلاث المقبلة.

كذلك، جاء تسليم الأميركيين كبار بعثيي صدام المعتقلين إلى حكومة المالكي، مع معرفتهم باحتمال تنفيذ أحكام إعدام انتقامية بحق معظمهم، ليؤكد أن أميركا لن تسمح لهذه النوعية من البعثيين السلطويين بالبقاء على المسرح السياسي في العراق.

بمناسبة الحديث عن الديمقراطية، أروي هنا تجربة شخصية مررت بها. عندما قامت الوحدة بين مصر وسورية، كنت نائبا لرئيس التحرير ورئيسا لقسم الأخبار في صحيفة «الوحدة» التي أنشأها عبد الناصر في سورية. بعد كل هذه السنين، أعترف بأني شعرت بفراغ سياسي في غياب الأحزاب والديمقراطية. وجدت أن سورية كانت أكثر حيوية في النظام شبه الديمقراطي الذي سبق الوحدة (1954/ 1958). كان عبد الناصر مثقفا سياسيا يتمتع بشعبية هائلة. لكن عسكريته جردته من القدرة على القبول بأحزاب وصحافة حرة، وبرلمان ناقد.

إذا كان الانقلاب مستحيلا في العراق، فيجب أن تكون الدكتاتورية الدينية أو العسكرية مستحيلة أيضا. القوى العراقية كلها مطالبة، بعد مآسي صدام والاحتلال ومأساة ناصر، بالإيمان بعراق ديمقراطي. عراق مسالم مع نفسه ومع أشقائه وجيرانه.